برعاية وزير الثقافة القاضي محمد وسام المرتضى وبدعوة من دار الأمير أقيمت عصر الخميس 14/9/2023 في قاعة المكتبة الوطنية، وزارة الثقافة، ندوة فكرية مميزة حول رواية “أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون” لمؤلفها الدكتور محمد حسين بزي.
افتتح الاحتفال بالنشيد الوطني اللبناني ثم كلمة وزير الثقافة التي ألقاها الإعلامي روني ألفا، تلتها قراءات نقدية لكل من الدكتور طراد حمادة والدكتورة دلال عبّاس والدكتورة منى رسلان، وأدار الندوة المحامي سليمان علوش وسط حشد كبير من الشعراء والأدباء والكتّاب وشخصيات سياسية واجتماعية وإعلامية وثقافية.
ثم ألقى الكاتب والإعلامي روني ألفا كلمة الوزير المرتضى، وممّا قاله: “الحبيبُ الدّكتور محمَّد حسين بزي، أنا بأمسِّ الشَّوقِ مثلُكَ لِأَحصلَ على بطاقةِ إعاشَةٍ وسطَ يباسِ الرُّبعِ الخالي من أرض البَشَر.. ينتابُني انتماءٌ لكَوكَبٍ اخترعَهُ أنطوان ده سانت إكزوبِري من غُبارِ نِعالِ الأنبياء. رفيقُ سفري الأميرُ الصغيرُ ولشدّةِ ضيقِ المساحةِ على الكوكبِ الأزرقِ قرَّرتُ منذُ سنين أن أَحجِزَ لي صخرةً قربَه على سطح القمر. ولدان نحنُ تتمرجَحُ أرجُلُهُما في الخَلاءِ الكونيِّ ويرفُسان النجومَ كُراتَ قدمٍ متلألِئةٍ بلا مَرمَى وكُوَيكِباتَ أسئلَةٍ طفوليَّةٍ تصرُخُ في السِّعَةِ الكُبرى: أهناكَ ربٌّ يسمَعُنا في هذا الفضاء؟ أهناك حبٌّ يَغمُرُنا فَوْقَ هذه السَّماء؟”.
وتابع ألفا: “على سُلَّمٍ تِرمَذِيٍّ من شَجَرِ الوَحي أصعِدنا معَكَ إلى هَديلِ عَمامَة. اعتَمِر ضبابَ الصلاةِ وتكثَّفْ في غباوَةِ صَوابِنا. أعطِنا إقامةً دائمةً نخلَعُ على متنها كلَّ معارِفِنا فَنَتَمَتَّعُ بسعادةٍ أمِّيَّة.”
وختم ألفا: “صديقي الدكتور محمد، شيءٌ مريبٌ يحدثُ بين ” دار الأمير” ومطبعةِ الكُتُب. مقامُ الحبِّ يقع في الصفحة ١٩٥ أي في منتصفِ الروايةِ تمامًا دونما احتسابٍ لسيرَتِكَ التي ليست فصلًا في الرواية. مقام الحب يقع تمامًا في منتصَفِ الكتاب. ما قبلَهُ بُطَينٌ أيسَر وما بعدَهُ بُطينٌ أيمَن. التهمتُهُ مع واحد وعشرين حبّةٍ من الزَّبيبِ الأحمَر وتعلَّمتُ قليلًا من خلال القراءةِ وفهمتُ كثيرًا من خلالِ الحُبّْ الذي اعتبرهُ تِيار ده شاردان طبيعةً تدخل في طبيعة كَونٍ يتمدد باستمرار يحاورُنا الله من جوفه اللامتناهي… شَتَّان..”.
وقدم الدكتور طراد حمادة قراءة نقدية في الرواية بعنوان “مقامات سمفونية الترجمان في رواية أيام مولانا”، وممّا قاله:
“يدخل محمد حسين بزي في روايته “أيام مولانا وقواعد العشق الأربعون في حلقة الرواية الصوفية المولوية التي نسجت من سيرة وسلوك ووجد وعشق وشعر مولانا جلال الدين الرومي طريقاً في الرواية التي تترجم في فصولها ما تركه الرومي في قلوب العاشقين وسلوك المريدين وصفير قيثارة السامعين.. وسرّ القيثارة يهدى لذويه”.
وتابع حمادة: “حتى أننا حين نفتح باب أسرار الرواية ندخل إلى منازل العشاق ومسارح مقاماتهم وخلواتهم، ونصغي إلى موسيقاهم ونرقص في محافل الوجد والطيران إلى فضاء المحبوب، هذا المسرح الصوفي يعيد محمد حسين بزي ترتيب مقاماته ويضع له ما يشاء من صور ولوحات ومن شخصيات عبر في حركة الأيام والفصول، إنه إعادة كتابة تاريخ معنوي بطريقة صوفية ويشبه إعادة توزيع موسيقى لسمفونية رائعة تتجدد فيها آلات العزف وتوزيعها، ولكن تبقى محافظة على نوتة تأليفها الأصلية وهذا معروف في القصص الصوفي وحكايات العرفاء وكذلك في أدب المعراج الصوفي تتعدد الكتابة حول تاريخ واحد وسيرة واحدة، ولذلك فإن في رواية “أيام مولانا” ما يشبه الجمع بين التاريخ الواقعي والمتخيل، لأنه جعل من الأيام الحقيقة لمولانا وهي سيرته التاريخية موضوع رواية تدخل فيها كل عناصر الفن الروائي هذا من ناحية كتابة السيرة في الرواية. أما السرد الروائي فإنه يمضي في طريقة القوم ويحافظ على سرديته المستقاة من نصوص الأصحاب وعلى شعريته المتوفرة عند كل نص صوفي، ويكتفي أن يجعل كل ذلك في مقامات هو ترجمانها، وعليه فإن التاريخ الواقعي لأيام مولانا من بلخ إلى قونية وقبل صحبته مع شمس تبريز إلى ما بعد غيابه عنه تجتمع مع السيرة الروائية المتخيلة كأنها إعادة توزيع في الإفصاح، ولأن السيرة الواقعية مشبعة بعناصر الإفصاح الصوفي فإن سردية الرواية المتخيلة لا تضع بين النص الروائي وبين النص الصوفي المقتبس حجاباً، ولا تجعلها على طريقة الفلسفة الظواهرية معلقة بين قوسين أبويه، بل تدرجها في وحدة متقنة البناء، وهذا يعطي للرواية قيمة فنية مضافة..”
ثم كانت كلمة الدكتورة دلال عبّاس، وقالت ” في ليلة من ليالي الأرقِ الملازمِ الباحثينَ عن معنى من المعاني المتواريةِ وراء حجبِ الغفلة التي عجزت عن إدراكها العقولُ القاصرةُ الملتصقةُ بالقعر المُسمّى واقعَ الحياة، تساءل محمّد حسين بزّي عن سبب قتلِ السُّهرورديّ؛ أيقتُلُ الكلامُ قائلَه؟ ما هو الكلامُ الذي يستفزُّ أهلَ الظاهر ويُؤرّقُهم فيمحونه بمحوِ صاحبِه من الوجودِ ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتِها. لقد غاص محمد حسين بزّي في دراسةِ الكلام الذي قتلَ صاحبَه، وتعرّف السُّهرورديّ، وعرّفه، وقرأ الغربةَ الغربيّةَ، فلامس نورَ الإشراق أو إشراقَ النّورِ كما يحلو له التّعبير. وعرفَ معنى الحبِّ الذي يتولّد من المعرفةِ ويجذبُ المُريدَ إلى المُراد؛ ولازمه سؤالٌ مصاحبٌ للأرق، يضربُ الرأسَ بأنغامٍ لا إيقاعَ لها؛ تتفرّعُ عنه أسئلةٌ لم تأته أجوبتها بسهولة:
كيف يصبح الإنسان متصوّفاً؟ أو على الأقل متأثّراً بالفكر الصّوفيّ؟
أهي صدفةٌ أم تقديرٌ إلهيٍّ أنْ تسمعَ وأنت في آخر الدنيا اسم رجلٍ من جبل عامل فتنقدحَ في رأسك فكرةُ أن يكون موضوعًا لدراسة هي الأهمّ في حياتك، أو يقعَ في يدك وأنت في أوّل الشباب كتابٌ فيه كلامٌ على رجلٍ من سُهرورد قتله قائدٌ أُمّيٌّ بناءً على نميمةِ بعضِ المتفيقهة… ومن اهتمامه بهذا السُّهرورديّ الشّهيد تنبتُ لدى محمّد حسين بزّي فروع اهتمامٍ بسائر المتصوّفة، وفجأةً يجد نفسه بين يديّ مولانا، يحتار كيف يدخل عوالمه المتجاوزةَ الزّمان والمكان، ويقرّر أنْ ينقلَ هذه المعرفة إلى الآخرين، وهو يعرف أنّهم [أي الآخرون] ربّما سمعوا اسمَ مولانا أو قرؤوا بعض ما يُنسب إليه، فيقول في قرارة نفسه “زكاةُ المعرفةِ إنفاقها”، وحبّي مولانا بعد السُّهرورديّ يفرض عليّ أنْ أعرّفه للناس … ومضةٌ لمعت في كلّ عروقه دُفعةً واحدةً، تبعتْها رعشةٌ كأنّها الرعد ساعة صيف..!”
وتابعت عبّاس: “وحين ضرب العقلُ والعشقُ فألاً معًا، سالتْ قطرتان منهما، اختلطتا فكان القلبُ… وهام القلب في وادي المعرفةِ يتنقّلُ بين مدن المعاني: من إشراقات السُّهروردي إلى الفيافي التي قطعتْها طيورُ فريد الدين العطّار الثلاثون قاصدةً السيمرغ.
لكن لماذا كتب محمد حسين بزي هذه الرواية؟
لأنّ النظرةَ في الرواية التي سبقتها -رواية أليف شفق- لم تتجاوزْ حدودَ الظاهر في شعر المولوي، ولم تلامس ذرّةً من كنه هذا الشعر؛ فمن لم يتذوّق قطرةً من كأس العشق الإلهيّ، ولا يفهم كنهَ الخَلوةِ الأربعينيّةِ، لا يمكنه أنْ يفهمَ العَلاقة بين المريدِ وشيخه، وأنّ المريدَ السالكَ يجبُ أنْ يكونَ بين يدي مرشده كالميّتِ بينَ يَدَيْ الغاسل، وجلالُ الدين الروميُّ وشمس كان كلُّ واحدٍ منهما بالنسبةِ إلى الآخر السالكَ المُريد والشّيخَ المُراد، ولم يكن أيٌّ منهما متهاونًا بالشريعة وبأحكامها وآدابها [أنا غبار قدم محمّد (ص)، قالها المولويّ]؛ والاثنان كانا يُصرّحان دائمًا أنّهما يُحرّمان ما حرّمَ الله ولا يحيدان عن الشريعةِ قيدَ أُنمُلة؛ وتنطبق عليهما المقولةُ التي أوردها شيخي البهائيّ في مقدّمة مثنويته “نان وپنير” [الخبز والجبن] “من تفقّه ولم يتصوّف فقد تَفَيْقَه، ومن تصوّفَ ولم يتَفَقّه فقد تزندق، ومن جمع بينهما فقد تحقّق”.
ثم كانت كلمة الدكتورة منى رسلان، ومما جاء فيها””تنفتحُ قراءتي النقديَّة الموضوعيَّة الموسومة بـ “التجلياتُ المعرفيَّةُ قمحاً نورانياً في عين الشمس _ في رواية “أيَّام مولانا وقواعِد العِشق الأربعون” للروائي د. محمَّد حسين بزِّي، على تشكُّل المنظومة البنائيَّة في الرِّواية:
إذ تنكشف أمام القارئ والنَّاقد العارف بالمسار الرُّوحانيِّ والوجدانيِّ، الدينيِّ منه، أو الصوفيِّ تحديداً، رواية “أيَّام مولانا وقواعِد العِشق الأربعون”، بما يُحمِّلُها الكاتب _ الرؤائيُّ من فرادة في القيم الفلسفيَّةِ والحياتيَّةِ، تجعلُها في غموضِ الرؤى، برمزيَّة وخصوصيَّةِ عنوانها (رواية “أيَّام مولانا”)؛ انطلاقاً من معانيه الفيلولوجيَّةِ والتَّاريخيَّةِ، وتلك الاجتماعيَّةِ والحياتيَّة_ الإنسانيَّة، وتينك الفلسفيَّةِ _ الصوفيَّة. فمن خلال هذا النهج تُدخِّلُ “رواية أيام مولانا” القارئ والناقد في أتون من عوالم فلسفيَّة بتشعُّباتها ومدارسها وطُرُقها. غير أنَّ ما يُوسِم الشخصيَّةَ التكوينيَّة أو البنائيَّة (التكويَّنية) للرواية، أنَّها تقع في عشرين فصلاً، بـ “قواعِد العِشق الأربعين” مشمولة بمقدِمة ورسالة بزِّي الشعريَّةِ إلى “مولاه”.
إلى مولانا
غادِرني فيَّ وإليَّ، (قونية)
قِبلةُ عِشقٍ طلَّتْ مِن عينيَّ
غادِرني فيَّ…
وإليَّ.. .”
وتابعت رسلان: “لا غيض من أنَّ العمل على تكوين المنظومة البنائيَّة في رواية “أيَّام مولانا ” للروائي محمَّد حسين بزِّي، ينطلق في معارج الطريق الصوفي، قيل أنَّهُ لا بُدَّ للعاشقِ من ذخيرةٍ للسَلِكِ حتَّى يتسنى له مواصلةُ السير. وهنا يكمن الفرق ما بين العشق والعقل.
وممَّا لا شكَّ فيه أنَّ الروائي مجمد حسين بزِّي يضعُ كُلاً من “مولاه والقارئ_الناقد في مواجهة المصادر الينبوعيَّة لـ “الأفكار الصوفيَّة” وفِعلُ تأثيرها في عيشه اليومي؛ تلك “قواعد العشق الأربعون” بمنطقٍ عقلي، ناهيك عن مُنطلقات أسيل ماءٍ ليس زبدياً تنضحُ تفكُّراً معرفيَّاً لأُستاذ “مولانا” السيِّد بُرهان الدين. وتظهر لنا فنيَّة الكتابة الروائيَّة والتجربة الجماليَّة، إذ يصوِّر الروائي مقام الإشراق، في روايته “أيام مولانا”، في خلواته وتفكُّرِهِ برمزيَّة الحجر. وكأني بك تسمع قلبه الخفَّاق يُنشد فيها إضماراً وتوْريَّة أو جهاراً وتبييناً: هُنا الكعبة طوَّاف فيها أنا، وهُنا البيت والبَيعة، مشدوهاً أُقيم فيها مؤمناً ومشعر مِنى، أطوف بين حجرين “الصفا والمروى”.
ههنا حري بنا أن نستكشف أهمية “المكان” الكياني المُقدَّس، والأخذ بـ بُعده الثقافي، وذاك الوجودي. “فالمكان رحم الوجود وغيابه الخواء والعدم” .
_ “فأيُّ سرِّ في هذا الحجر..؟! ” (يقول “الفتى _ مولانا)؛ في تصوير لمشهديَّة مباشرة ومقنعة تتجسَّدُ أمام ناظريك؛ عبر توسُّلِ إخراج جماليات المكان من الحيِّز السكوني – الجامد، إلى الرحاب التفاعليَّة – التواصليَّة، في توليفة تتكشف للفتى بحِسِّه وحدسه.
– “كنتُ أُفكِّرُ برمزيَّة الحجر..!”.
ليخلُص إلى صفوة المُبتغى:
_” رُبَّما كي تعود من مكَّة وقد حطَّمت جميع أحجارك (أصنامك)، تعودُ بقلبٍ مُحبٍّ رحيمٍ، بقلبٍ لم يعُد حجراً…؟!. “.
وختمت رسلان: “إنَّ الرواية الفلسفيَّة التي عكف على سرديتها الروائي بزِّي، شابكاً الماضوي منها بالمُستقبل، المضمر بالتجلّي والكشف، اللا مكان بمكان الدهشة ثمَّ تليها سكينة الروح، فيخيّم عليها منحى الاصلاح في كل زمكان؛ بعيداً عن العصبيات وأيديولوجيات التمركز حول العِرق والدين؛ والتعالي عن الارتياب والتأرجح، وهي تتماهى مع الترميز الصوفي بالانفصال الرمزي عن الذات، في رحلة الكشف؛ حتى أنَّ الناقد أو القارئ ليخال نفسه وكأني بالنص الفلسفي يستنطقه حضورياً ووجوديَّاً، ويدفعه إلى مُجالسة الذات في رحلة التشافي المعرفي والإنساني، والمُثاقفة مع الأنا والآخر، مع التقليد والتجديد. إنَّ “أيَّام مولانا” برمزيَّة اللا زمانيَّة، وخاصيَّة المكانيَّة، يستعرض فيها الروائي، بخلفيته الأكاديميَّة، رؤاه الفلسفيَّة، رابطاً الروحي في روايته باتجاه التعمُّق / أو التفكُّر بالإنسان والسياسة وحضارة الشعوب، ناهلاً من الثقافة والتُراث الإسلامي الفوَّاح. فالتكثيف اللفظي، وذاك المشهدي، والعبور في الرواية غالباً ما يرتبطان بموضوعي “العقل” و “الروح”، أو “الشكل” و “الجوهر”؛ كي يُحقِّق “مولانا”- الشخصيَّة الحاضرة على مستوى السرد الحكائي في الـ 400 صفحة وجوده”.
وختم الحفل بكلمة شكر للدكتور محمد حسين بزي، ثم وقع الرواية للحضور.