تدهشك ذاكرة سمير القنطار. يكفي أن تقرأ ما سُرّب منها حتى تسأل نفسك: هل هي حقاً لرجل مناضل؟ هي كذلك حقاً، بلا أدنى شك، لكن الاشكالية هنا أكبر وأكثر عمقاً. ذاكرة سمير انعكاس لقضية كاملة بانتصاراتها وانكساراتها واشكالياتها. قد تدرك ذلك بسهولة عند الاستماع إلى سمير، قراءة ملامحه وانفعالاته، وأفكاره، وأحلامه وطموحاته، وذكرياته. هي الذكريات على وجه التحديد، الماكثة بحسابات الزمن بين نيسان/أبريل 1979 إلى 16 تموز/يوليو 2008، ثلاثون عاماً ملأى بكل شيء: القصة الكاملة.
اللقاء الأول
بيروت 22 نيسان/أبريل 1979
أناقةُ مكتملة: جاكيت خضراء قصيرة، قميص بيج ضيق، وبنطلون أخضر “شارلستون”. كان من الضروري أن يظهر ابن السادسة عشرة والنصف بكامل وسامته عند لقاء فتاة أحلامه للمرة الأولى.
اللقاء الأول لم يكن موفقاً. كان من المقرر أن يجري قبل سنة وثلاثة أشهر، تحديداً في 31 كانون الثاني/يناير عام 1978. وقتها، لم يصل سمير إلى هدفه، حلمه: فلسطين. العملاء في الأردن كانوا له ولرفيقيه ناصر الدين الجاري “أبو النصر” و”أبو شادي” بالمرصاد، اعتقل لمدة 11 شهراً في العاصمة عمّان ليرحّل بعدها إلى لبنان في 25 كانون الأول/ديسمبر 1978.
فشل العملية لم يحبط سمير ابداً لعوامل عدة، كانت عملية دلال المغربي في آذار/مارس 1978 أبرزها، فإلى جانب طموح سمير المقاوم، وعزمه وشجاعته، وولعه بفلسطين، فإن صوت دلال وهي تؤدي النشيد الوطني الفلسطيني “فدائي فدائي فدائي يا أرضي يا أرض الجدود”، وهي في طريقها إلى اقتحام النادي الريفي، حفّز مخيلة سمير لما هو آت، فقال “سأكرر محاولتي وسأصل”.
لنعد إلى اللقاء المنتظر. من حي الفاكهاني في العاصمة اللبنانية بيروت كان تجمع الشباب عبدالمجيد أصلان، ومهنا المؤيد، وأحمد الأبرص، بقيادة القنطار للانطلاق إلى حيث من المخطط تنفيذ “عملية جمال عبد الناصر” في نهاريا شمال فلسطين المحتلة (أول هجوم فلسطيني ينطلق من لبنان عبر البحر)، إلى حيث “لا عودة”، إذ أنه “لا أحد حتى تلك الساعة ممن نفذوا عمليات فدائية في فلسطين المحتلة عبر لبنان تمكّن من العودة، لكن العيون هناك خلف الحدود، والأيدي على الزناد”، قال سمير.
سلك المقاومون طريق البحر. مروا بالعيشية تمويهاً ثم بالعديد من القرى وصولاً إلى الساحل الغربي، إلى قاعدة في البرغلية شمالي صور إلى رأس البياضة، فدرب زراعية ضيقة وصولاً إلى نقطة التجمع المتفق عليها في بستان من أشجار الليمون، هناك التقطوا صورة للذكرى. غفا سمير تحت احدى أشجار الليمون استعداداً للرحلة المقبلة التي مشى إليها “بكل براءة وحب”، كما قال القنطار متأقلماً مع فكرة الشهادة حد الأنس.
المفارقة أن القنطار كان الأصغر سناً والأقصر قامة بين رفاقه في العملية، كان هو القائد لأنه يمتلك “الروح الميدانية المطلوبة والصدق والاندفاع”، بحسب أحد قادة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين التي كان القنطار مقاوما فيها وقتها.
عندما وصل سمير ورفاقه إلى الساحل الفلسطيني على متن زورق “كان طيعاً، ومرناً في الهروب من رادارات العدو واستطلاعه”، لمح عميد الأسرى مدينة حيفا، لم يترك نفسه لسحرها إذ أن “دوريات اسرائيلية ظهرت قريبة منا”. وصل المقاومون إلى شاطئ نهاريا، الهدف المرسوم “لما كانت تحويه من ثكنات عسكرية ضخمة”، ذلك بعد النجاح بأعجوبة في الهرب من بروجيكترات العدو وزوارقه. الخطة كانت أن تكمن المجموعة لجيب عسكري وقتل من فيه، ثم التقدم إلى أحد الأبنية، تصفية من فيها وسحب أسيرين لاستبدالهما بأسرى فلسطينيين في السجون الاسرائيلية.
هكذا حدث، استدرج المقاومون سيارة شرطة إلى موقع العملية، عبر الطَرق على باب أحد المنازل ودفعهم لاستدعاء الشرطة. تمّت تصفية من في الدورية واندفع القنطار إلى أحد الأبنية، اشتباكات هناك، شهد فيها القنطار أولى خساراته: صديقه ماجد (عبد المجيد اصلان). استطاع القنطار مع أبو اسعد (أحمد الأبرص) ومحمد علي (مهنا المؤيد) الامساك بمستوطنين اثنين كرهينتين واصطحابهما، مع الأخذ بالحسبان أنهم باتوا في سباق مع الوقت لمنع الاسرائيليين من محاصرتهم.
في طريق العودة إلى الشاطئ، تعرضت المجموعة لاطلاق نار. أدرك نبيل (الاسم الحركي لمسير القنطار) أن النجاة بات صعباً، وأن لا مهرب حتى الطلقة الأخيرة.
اشتباكات قاسية انتهت بأسر أبو أسعد، واستشهاد محمد علي، وضُرب القنطار ولم يعترف بمكان المجموعة التي تنتظرهم في منطقة البقبوق شمال صور، أغمي عليه وطار في سماء فلسطين.
ثلاثون خلف القضبان
“كل يوم مثل نبتة تنمو أمامنا ببطء، ونحفظ أوراقها وأحجامها وألوانها ورائحتها”
من الصعب اختصار سني أسر سمير الثلاثين. هي فعلياً حياته، نضاله الكامل. بإجماع كل من عرفه مع اختلاف نوع وعمق هذه المعرفة، فإن القنطار كان ممن لم يروضه الأسر. بقي مقاوماً ثائراً، يزعج عدوه كثيراً، ويطلع على كل الأحداث المفصلية وتطورات الصراع في الخارج، يحقق الانتصارات حتى من قلب زنزانة انفرادية.
في سجن بئر السبع عام 1994، التقى الأسير المحرر عبد الرحمن شهاب بسمير. رافقه خمسة عشر عاماً. روى شهاب الكثير عن القنطار، ومن بعض ما روى علاقة الأخير بالشهيد المؤسس لحركة الجهاد الإسلامي فتحي الشقاقي الذي التقاه عام 1988 في “سجن نفحة”، حيث تشارك معه غرفة عزل أمنية واحدة، متأثراً بأفكار الشهيد الشقاقي فيما يخص الحركات الإسلامية وعملها ولا سيما رؤية حركة الجهاد الاسلامي وخطها الفكري الذي أعجب به سمير جداً.
إلى جانب الشقاقي، يتحدث شهاب عن معرفة الشهيد القنطار بالقيادي في حركة حماس ابراهيم المقادمة، لافتاً إلى أنهم شكلوا “غرفة من المثقفين، تدور فيها النقاشات الفكرية العميقة، أي غرفة نهضة علمية”.
يروي سمير بعضاً من قصص ثورته في أحد السجون التي تنقل بينها طوال ثلاثة عقود، قائلاً “اجتمعنا لمناقشة مشروع جبر، إضراب شامل في السجون كلها. أهدافه إعادة الوضع كما كان قبل حرب الخليج الثانية، والسماح بالتعليم الجامعي بالمراسلة أسوة بالأسرى حاملي “الجنسية الاسرائيلية” من فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948 وبالسجناء الجنائيين، والسماح للأطفال بالزيارة ومعانقة آبائهم الأسرى لخمس دقائق. وإلغاء الشبك الحديد من غرف الزيارات وجعل مدة الزيارة 45 دقيقة كل أسبوعين بدل 30، وتحسين الاستشفاء والطعام”.
تلا هذه المطالب مسار طويل من العزل والتمرد على السجان في خطة محكمة بين مختلف قادة الفصائل الفلسطينية الموجودين داخل السجون، ثم تشكلت اثرها “لجنة نضالية” كان سمير عنصراً أساسياً فيها أكد في رسالة بالعبرية أن “الاضراب مفتوح والتضحيات ايضاً”، وخاض المفاوضات، وانتصر.
بناءً عليه، أكمل القنطار دراسته الجامعية في العلوم الاجتماعية. أنجز بحثه عن “تناقض الديمقراطية والأمن في اسرائيل”، وآخر عن “هجوم بارباروسا الألماني على الاتحاد السوفياتي”. وفي عام 1998 نال القنطار شهادته وكان قد مرّ على أسره تسعة عشر عاماً.
أم جبر
“إلى أم جبر التي تحمل قسمات وجهها حقبة معاناة طويلة، أنا أحد عناوينها” من اهداء كتاب “قصتي” لسمير القنطار
في سجن نفحة عام 1985، أرسل الله أم جبر. الأخيرة تمتلك أمومة فائضة. أحبّت عزم سمير فاتخذته ابناً لها، حتى بعد خروج ابنها جبر عام 1999، قاومت من أجل أمومتها، لتنتزع عام 2000 من العدو تصريحاً بزيارة سمير.
بداية الأمل
كانت عملية تبادل الأسرى عام 2004، والتي أنجزها حزب الله مقابل تسليم ضابط المخابرات الحنان تننباوم، وعداً حقيقياً بالحرية بالنسبة للقنطار. قال سمير إنها “جعلتني كمن يدخل تحت غطاء في ليل بارد”.
قبلها بسنوات تحديداً عام 1999، نشأت علاقة بين سمير وبين أسرى حزب الله، إذ أن “أي منا لن يخرج إلا بعملية تنجزها المقاومة الإسلامية، فباتت قضيتنا واحدة”، كما نشأ خط تواصل بين الشهيد والمقاومة في لبنان عبر هاتف سري.
كان سمير القنطار من المتحمسين لانضمام ممثل لحزب الله إلى اللجنة الوطنية التي ضمّت إلى جانبه توفيق أبو نعيم عن حماس وعبد الرحمن شهاب عن الجهاد. من هنا نشأت علاقة بين سمير وممثل مجموعة الأسرى اللبنانيين الذين أتوا من عسقلان “بعد كشف هواتف في زنزانتهم”، اسماعيل الزين، ومن ثم قاسم قمص، وبعد نقلهما لاطلاق سراحهما تعرّف سمير على محمد بدير في كانون الثاني/يناير 2000 “الذي يبدو في بحث دائم عن مساحة خاصة لنفسه”، والذي قال له قاسم إنه سيخبره “عن الطريقة التي نموّه بها الاتصال بالحزب في بيروت”.
علّمه محمد كيفية الاتصال ببيروت. وقتها ضجّ صوت أمه وأخوته وعائلته في قلبه، وبعدها فتح باب الاتصال بينه وبين منسق لحزب الله في لبنان، وأعطي “كود” لأخته سميرة في قريتهم عبيه، لتستطيع الاتصال بسمير عبر اوروبا.
هو الهاتف نفسه، الذي تلقى من خلاله سمير تأكيداً للخبر العظيم في تموز/يوليو 2006.
حرية
سجن نفحة الصحراوي، في 15 كانون الأول/ديسمبر 1997، كتب سمير رسالة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله: “أدعوكم إلى الانتباه والحذر من الوقوع في اغراءات اطلاق سراح أعداد من الأسرى مستعدة اسرائيل أصلاً لاطلاق سراحهم، بينما يبقى الأسرى الذين من واجبكم إخراجهم قبل أي أسير آخر نظراً لطول المدة الزمنية التي أمضوها في السجون. انتصار عملية التبادل المقبلة يكمن فقط في الهزة المعنوية التي ستتركها في أوساط المجتمع الاسرائيلي، من هنا أؤكد أن اسرائيل ستصرّ على عدم اطلاق سراحي. لكن أملي كبير بأن يكون اصراركم على إطلاق سراحي أكبر وتتوقف رحلة معاناتي”.
صدقت توقعات سمير. تعنّت الاحتلال في مفاوضات التبادل مع الحنان تننباوم، فلم تُكتب له الحرية عام 2004، لكن السيد نصرالله أطلق وعده له بقرب العودة: الوعد الصادق.
“انتهى المشوار، لم أغن هذا لكن صداه صدح في رأسي”
سمير القنطار 12 تموز/يوليو 2006
أسر المقاومون جنديان اسرائيليان. وقتها، شعر سمير القنطار أن يده طالت السماء وأن القضبان سراب. اليد العليا للمقاومة الآن، نقل هذه الحقيقة إلى رفاقة في المعتقل، خصوصاً المتوجسين من نتائج الحرب التي أعلنها العدو الاسرائيلي على لبنان، وإلى سجانه ايضاً قائلاً “سيلعبون بجنودكم كالأتاري”، وهكذا حدث فعلاً.
لم يعكر مشاعر الفخر والثقة والقوة، سوى ما لمسه سمير وقتها، تحديداً في المرحلة الأولى من الحرب، من دعاية إعلامية مفادها أن الحرب كانت لأجله. “آلمني شخصنة الموضوع وتسييسه، جرحني استغباء العقول والناس وتصوير أن لا صراع بيننا وبين اسرائيل”.
مقاومة وصبر وتضحية فنصر، فمفاوضات دامت عامين تابعها سمير سراً من خلال التواصل مع وسيط بينه وبين السيد، كان متجرداً من الأنا وحريصاً على أن تأتي بنتائج تليق بانتصار 2006، وهكذا كان..
“صدقوني لم أعد إلى هنا إلا لأعود إلى فلسطين، عدت لأعود…” صدحت كلماتك هذه عالياً بعد سبع سنوات في جرمانا في العاصمة السورية دمشق، هناك بان جزءٌ صغيرٌ من حكاية كبرى لم ترو فصولها بعد.
- ملاحظة: تم الرجوع في عديد من الأحداث المذكورة في هذا النص إلى كتاب “قصتي” الذي روى فيه سمير القنطار أغلب جوانب حياته ونضاله
المصدر: موقع المنار