سياسة “الحدود المُغلقة” بوجه المُهاجرين، التي دعا إليها الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب خلال حملته الإنتخابية، كانت إحدى أقوى العوامل التي ساهمت في فوزه الصادم على هيلاري كلينتون التي هي رمز حشر الأنف الأميركية بالحروب الخارجية في عهد أوباما، الذي اتَّسَم بنظرية إشعال الصراعات خاصة في سوريا وليبيا واليمن عبر الأدوات، مع ارتداء الإدارة الأميركية “الكفوف البيضاء”. والهزيمة التي لحِقت بكلينتون – وبصناعة الإرهاب -، ستكون ربما أقسى درس في التاريخ المُعاصر للدول الكُبرى ونهج الإستكبار بصرف النظر عن السياسة التي سوف يعتمدها ترامب مستقبلاً لأنها ربما تكون أعقل من أسلافه.
الإرهاب، الذي اعترفت كلينتون أنها لم تكُن تتوقَّع تمدُّده بهذا الشكل المُخيف، انتقلت حرائقه وسوف تنتقل عبر العالم، وعزَّز حضوره الضاغط، حظوظ الأحزاب اليمينية الأوروبية الداعية الى القوقعة ضمن جغرافيا ما قبل الأحلاف والإتحادات والأسواق المشتركة، وقضى أساساً على حريَّة انتقال الأفراد عبر الحدود بدون تأشيرات، وباتت اتفاقية “شينغن” بين دول الإتحاد الأوروبي مجرَّد حبرٍ على ورق، بعدما انتهك الإرهاب كل الحدود ولوّحت دول أوروبية عديدة بالخروج من هذه الإتفاقية بهدف ضبط حدودها الوطنية والحفاظ على أمنها الداخلي.
وقد تكون الإنتخابات الرئاسية الفرنسية المُقررة في ربيع 2017، هي النموذج للنبض الشعبي في انتصار “اليمين القومي” والهوية الوطنية على سائر الأحزاب والتيارات الأخرى، مع انهيار شعبية الرئيس الحالي فرانسوا هولاند الى أدنى مستوياتها منذ انتخابه عام 2012، ورغم ذلك، يبدو هولاند وكأنه ليس لديه ما يخسره، ويستمر في سياسته الخارجية غير الواقعية بدعوته دول ما تُسمَّى “أصدقاء سوريا” الى مؤتمرٍ يُعقد في باريس الشهر المقبل لدعم “المُعارضة السورية” خاصة في شرقي حلب، واستغلال الفترة الإنتقالية في أميركا قبل وصول ترامب الى الحُكم، لتغيير موازين القوى على الأرض، والتي تبدو أنها حُسِمت بقرار روسي وإقليمي لا عودة عنه، وتجلَّى منذ يومين بموقف الرئيس المصري في دعمه للجيوش النظامية في كل دولة لمكافحة الإرهاب على أراضيها وخاصة في سوريا، مما يؤشِّر الى أن أية مؤتمرات، باريس أو سواها،غير ذات جدوى، وباتت كل دولة ضمن حدودها وسيادة قوانينها مُلزمة بحماية كيانها بالتحالف مع القوى التي تحترم هذه الحدود وهذه السيادة، وإذا كانت دول الإتحاد الأوروبي قد تفرَّقت على مستوى ضبط أمنها الداخلي وتموضعت داخل حدودها، فالأَولَى بالرئيس الفرنسي أن يقرأ نتيجة سياساته الخارجية التي سوف يحصدها في الإنتخابات المُقبلة.
وإذا كان رحيل الإشتراكي فرانسوا هولاند هو بحُكم المؤكد في ربيع 2017، فهذا لا يعني أن الفرنسيين لديهم هامش حرية للذهاب الى أقصى اليمين المتطرِّف واختيار “مارين لوبان”، لأن الإنتخابات التمهيدية لليمين الوسط التي جرت منذ أيام وهُزِمَ فيها الرئيس السابق نيكولا ساركوزي، المعروف بتشدُّده ضدّ المهاجرين وكانت له جولات عُنفية معهم عام 2005 حين كان وزيراً للداخلية، وأظهر مواقف عدائية تجاههم خلال عهده الرئاسي 2007 – 2012، ثم كانت آخر صولاته في تعزيز الكراهية عبر خطابه العدائي للإسلام والمهاجرين قبل الإنتخابات التمهيدية التي أقصته عن السباق كمرشح عن اليمين يوم الأحد الماضي، وأظهرت النتائج، أن الفرنسيين سيختارون الشخصية اليمينية المعتدلة التي لا تُشبه، لا مارين لوبان ولا نيكولا ساركوزي، وعليهم الإختيار في الربيع المقبل بين آلان جوبيه وفرانسوا فيون، علماً بأن الأول نال نحو 24% من الأصوات فيما نال الثاني 42%، ويدخلان في دورة منافسة ثانية يوم الأحد المقبل حيث قد تتظهَّر إرادة الناخبين الفرنسيين برئيس يميني معتدل بشخص فرانسوا فيون المقرَّب من روسيا والمؤمن بالتعاون معها لمكافحة الإرهاب، وفي نفس الوقت يُبعِد شبح “ترامب فرنسا” الذي يتمثَّل باليمينية المتطرِّفة مارين لوبان خلال الإنتخابات الرئاسية في ربيع 2017، خاصة أن مرشَّحِي اليسار قد يخرجون من الدورة الأولى، وفق استطلاعات الرأي.
مارين لوبان، التي تعزَّزت شعبيتها وتتعزَّز، عند كل عمل إرهابي يحصل في فرنسا، كما حصل أمس في اعتداء مسلَّح على مأوى عجزة يُديره رُهبان وأسفر عن سقوط قتيلة، لوبان هذه، ليست “المُخلِّص الآتي” لفرنسا، لأن خطابها لا يقتصر فقط على ضرورة مكافحة الإرهاب، ولا ترحيل اللاجئين غير الشرعيين، ولا إقفال حدود فرنسا بوجه الراغبين الجُدد بالهجرة، بل هي عدوانية بمواقفها تجاه مواطنين فرنسيين يحملون الجنسية منذ عشرات السنوات وباتوا شريحة من المجتمع الفرنسي ويشكِّلون ثقلاً إنتخابياً، وما زالت لوبان تعتبرهم غُرباء ويجب التضييق عليهم الى حدود التهجير.
ولذلك، فإن عنصرية ترامب التي تجلَّت في خطابه الإنتخابي وخفَّف من حِدَّتها بعد فوزه، هذه العنصرية إذا كانت تُصلح في الخطاب الأميركي وتستقطب الأصوات فلأن نسبة المسلمين في أميركا لا تتعدَّى 1%، بينما بات المسلمون قوة شعبية وازنة في فرنسا، وهناك 7 ملايين مسلم يعيشون فيها، والتعددية الدينية والثقافية، والعلمانية التي تعتبرها فرنسا من “قِيَم الجمهورية” لن تسمح بوصول مارين لوبان لأن جنون منطق ترامب لا يحتمله واقع فرنسا…
المصدر: خاص