قيل حول شهادة الإمام الصادق (عليه السلام) إنها في الخامس والعشرين من شّوال. وقيل: في النصف من رجب، والأوّل هو المشهور، واتّفق المؤرّخون من الفريقين على أنها كانت عام 148 هـ.
كما اتّفق مؤلفو الشيعة على أن المنصور اغتاله بالسمّ على يد عامله بالمدينة، وقيل إن السّم كان في عنب كما ذكر ذلك الكفعمي في المصباح.
وذكر بعض أهل السنّة أيضاً موته بالسمّ، كما في “إِسعاف الراغبين” و”نور الأبصار” و”تذكرة الخواص” و”الصواعق المحرقة” وغيرها.
ولمّا كاد (عليه السلام) أن يلفظ النفس الأخير من حياته أمر أن يجمعوا له كلّ مَن بينه وبينهم قرابة، وبعد أن اجتمعوا عنده فتح عينيه في وجوههم فقال مخاطباً لهم: إِن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة([1]).
وهذا يدلّنا على عظم اهتمام الشارع الأقدس بالصلاة، فلم تشغل إِمامنا عليه السلام ساعة الموت عن هذه الوصيّة، وما ذاك إِلا لأنه الإمام الذي يهمّه أمر الأُمة وإِرشادها إلى الصلاح حتّى آخر نفس من حياته، وكانت الصلاة أهم ما يوصي به ويلفت إليه.
وأحسب إِنما خصّ أقرباءه بهذه الوصيّة، لأن الناس ترتقب منهم الإصلاح والإرشاد فيكون تبليغ هذه الوصيّة على ألسنتهم أنفذ، ولأنهم عترة الرسول فعسى أن يتوهّموا أن قربهم من النبي وسيلة للشفاعة بهم وإِن تسامحوا في بعض أحكام الشريعة، فأراد الصادق أن يلفتهم إلى أن القرب لا ينفعهم ما لم يكونوا قائمين بفرائض اللّه.
وكانت زوجته أُمّ حميدة([2]) تعجب من تلك الحال وأن الموت كيف لم يشغله عن الاهتمام بشأن هذه الوصيّة، فكانت تبكي إذا تذكّرت حالته تلك([3]).
وأمر أيضاً وهو بتلك الحال لكلّ واحد من ذوي رحمه بصلة، وللحسن الأفطس([4]) بسبعين ديناراً، فقالت له مولاته سالمة: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال: تريدين ألا أكون من الذين قال اللّه عزّ وجل فيهم: “والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب”([5]) نعم يا سالمة إِن اللّه خلق الجنّة فطيّب ريحها، وإِن ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاقّ ولا قاطع رحم([6]).
وهذا أيضاً يرشدنا إلى أهميّة صِلة الأرحام بعد الصلاة وقد كشف في بيانه عن أثر القطيعة. وما اكتفى عليه السلام بصِلة رحمه فقط بل وصل من قطعه منهم بل مَن همّ بقتله، تلك الأخلاق النبويّة العالية.
ولمّا قُبض عليه السلام كفّنه ولده الكاظم عليه السلام في ثوبين شطويين([7]) كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامة كانت لعلي بن الحسين عليه السلام، وفي بُرد اشتراه بأربعين ديناراً([8]).
وأمر بالسراج في البيت الذي كان يسكنه أبو عبد اللّه عليه السلام إلى أن اُخرج إلى العراق كما فعل أبو عبد اللّه عليه السلام من قبل في البيت الذي كان يسكنه أبوه الباقر عليه السلام([9]).
وقال أبو هريرة([10]) لمّا حُمل الصادق عليه السلام على سريره وأُخرج إلى البقيع ليُدفن:
أقول وقد راحوا به يحملونه * على كاهل من حامليه وعاتق
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى * ثبير ثوى([11]) من رأس علياء شاهق
غداة حثا الحاثون فوق ضريحه * تراباً وأولى كان فوق المفارق
أيا صادق ابن الصادقين إِليه * بآبائك الأطهار حلفة صادق
لحّقاً بكم ذو العرش أقسم في الورى * فقال تعالى اللّه رب المشارق
نجوم هي اثنا عشرة كن سبقا * إلى اللّه في علم من اللّه سابق
دُفن عليه السلام في البقيع مع جدّه لاُمّه الحسن وجده لأبيه زين العابدين، وأبيه الباقر عليهم جميعاً صلوات اللّه، وهو آخر من دُفن من الأئمة في البقيع، فإن أولاده دُفنوا بالعراق إِلا الرضا في خراسان.
وعندما انتقل الإمام الباقر عليه السلام من هذه الدنيا، كانت الأوضاع والأحوال قد تغيّرت كثيرًا لمصلحة أهل البيت عليهم السلام، إثر النّشاطات المكثّفة الّتي جرت طيلة مدّة إمامته وإمامة الإمام السجّاد عليهما السلام، وخطّة الإمام الباقر والإمام الصادق عليهما السلام الّتي كانت من الأسرار في ذلك الزّمان، أسرار مثل أن يُقال مثلًا: إنّ جابر بن يزيد الجعفيّ كان من أصحاب السرّ، تلك الأسرار الّتي لو أُذيعت في ذلك الزمان، لحلّت لعنة الله على من يُذيعها.
كانت خطّته عليه السلام هي أن يجمع الأمور بعد رحيل الإمام الباقر عليه السلام وينهض بثورة علنيّة، ويسقط حكومة بني أميّة – الّتي كانت في كلّ يومٍ تبدّل حكومة، ما يحكي عن منتهى ضعف هذا الجهاز – وأن يأتي بالجيوش من خراسان والريّ وأصفهان والعراق والحجاز ومصر والمغرب وكلّ المناطق الإسلاميّة، الّتي كان فيها شبكات حزبيّة للإمام الصادق عليه السلام، أي الشّيعة، وأن يحضر كلّ القوّات إلى المدينة ليزحف نحو الشّام ويسقط حكومتها ويرفع بيده راية الخلافة، وأن يأتي إلى المدينة ويعيد حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم إليها. هذه كانت خطّة الإمام الصادق عليه السلام. لهذا، عندما كان يجري الحديث عند الإمام الباقر عليه السلام في أيّام عمره الأخيرة، ويُسأل من هو قائم آل محمّد، كان ينظر إلى الإمام الصادق عليه السلام ويقول: كأنّني أنظر إلى قائم آل محمد هذا. وقد كان من المقرّر للإمام الصادق عليه السلام أن يكون قائم آل محمّد في ذلك الزمان.
لقد كان الإمام الصّادق عليه السلام رجل الجهاد والمواجهة، ورجل العلم والمعرفة، ورجل التنظيم والتشكيلات. الكثير عن علمه، ومحافل دراسته وميادين تعليمه الّتي أوجدها، لم يكن لها نظير، لا قبله ولا بعده في تاريخ حياة أئمّة الشّيعة، فلقد بيّن الإمام الصّادق عليه السلام كلّ ما ينبغي أن يُقال بشأن المفاهيم الإسلاميّة الصّحيحة، والقرآنيّة الأصيلة الّتي تعرّضت للتّحريف طيلة قرنٍ ونيّف من الزمان بواسطة المغرضين والمفسدين، أو الجاهلين، وهذا الأمر هو الّذي أدّى إلى أن يشعر العدوّ بخطره.
لقد كان الإمام الصادق عليه السلام مشغولًا بجهادٍ واسع النّطاق من أجل الإمساك بالحكومة والسّلطة، وإيجاد حكومةٍ إسلاميّة وعلويّة، أي أنّه عليه السلام كان يُهيّئ الأرضيّة للقضاء على بني أميّة، والمجيء بحكومة علويّة، أي حكومة العدل الإسلاميّ. فهذا ما يتّضح من حياته عليه السلام لكلّ من يُطالع ويُدقّق.
([1]) بحار الأنوار: 47 / 2 / 5، محاسن البرقي: 1 / 80.
([2]) هي أُمّ الكاظم عليه السلام.
([3]) محاسن البرقي: 1 / 80 / 6.
([4]) أشرنا إلى شيء من حاله في تعليقة ج 1 229.
([5]) الرعد: 21.
([6]) المناقب: 4 / 273، والغيبة للشيخ الطوسي: 128.
([7]) شطا: اسم قرية في مصر تنسب إليها الثياب الشطويّة.
([8]) الكافي، باب مولد الصادق عليه السلام: 1 / 475 / 8.
([9]) نفس المصدر.
([10]) الظاهر أنه العجلي وقد عدّه ابن شهرآشوب في شعراء أهل البيت المجاهدين، وروي أن الصادق عليه السلام ترحّم عليه، وهذا يقتضي أن يكون موته قبل الصادق، إِلا أن يكون الترحّم عليه وهو حي، أو أن الكاظم هو المترحّم ونسب إلى الصادق خطأً.
([11]) الأنسب أن يكون – هوى – ولعلّ الخطأ من النسّاخ.
المصدر: شبكة المعارف الإسلامية