بسم الله الرحمن الرحيم،
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، [ولا] سيما بقية الله في الأرضين، أرواحنا فداه.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، شباب التعبئة الشجعان، أهلاً بكم. لقد نوّرتم حسينيّتنا بنور الدوافع التعبوية الحاضرة فيكم، بحمد الله. مبارك عليكم جميعاً أسبوع التعبئة، بل على الشعب الإيراني بأكمله.
كانت التعبئة من الابتكارات المباركة لإمامنا [الخميني] الجليل. طبعاً، لم تكن ابتكاراته العظيمة، التي كانت تؤسّس لتحركات عظيمة في حياة الناس وتاريخ البلاد، مجرد واحدة أو اثنتين، إلاّ أنّ تأسيس التعبئة كان من أهم هذه الابتكارات وأكبرها، فقد أعلن سماحته في خطابه الشهير ذاك مطلع شهر آذر 1358 (تشرين الثاني/نوفمبر 1979) [ضرورة تأسيس] جيش العشرين مليون في البلاد[1]. إذن، تأسّست التعبئة بعد أمر الإمام، في مثل هذا الشهر من 1358 (1979). كانت بركات التعبئة وهذا الابتكار العظيم لدرجة أن آذر 1367 (تشرين الثاني/نوفمبر 1988)، أي بعد مرور تسع سنوات، شهد تلك الخطابة[2] الراقية والبليغة والرفيعة للإمام في مدح التعبئة. ما الذي حدث على يد التعبئة في البلاد خلال السنوات التسع فأثّر في الإمام الجليل على نحو دفعه لاستخدام ذلك البيان الراقي والبليغ وتلك العبارات العجيبة وذلك الأدب المذهل؟
الآن، سأتحدث ببضع جمل عن ذلك الأدب الفاخر للإمام الجليل حتى تتذكروا أن إمامنا العزيز في هذا البيان، أو هذه الخطابة، يتحدث مع التعبئة كأب يُبدي عشقه تجاه أبنائه. سأقرأ هذه العبارات: «التعبئة مدرسة العشق ومذهب الشاهدين والشهداء المجهولين حيث رفع أبناؤه من فوق مآذنه الشامخة آذان الشهادة والشهامة». يا له من أدب فاخر وعبارات راقية! «إنّها شجرة مثمرة يفوح من براعمها عبير ربيع الوصال وطراوة اليقين وحديث العشق». طبعاً، أنا لا أقرأ هذه العبارات بالتسلسل. فاذهبوا واقرؤوها بدقة، فهذه الكلمات موجّهة إليكم. ثم يقول سماحته: «إن افتخاري هو أنني تعبوي». الإمام بتلك العظمة التي هزت العالم والتاريخ يقول: «إن افتخاري هو أنني تعبوي». ثم يقول: «أقبّل أيديكم فرداً فرداً». هذه [كلماتٌ] لا يمكن أن تُنسى حقاً. إذن، أيها التعبويون أنتم اليوم المخاطبون بهذا البيان. لم يقل الإمام تعبئة الثمانينيات. [قال] التعبئة. أنتم والتعبويون الذين من بعدكم حتى الحقب المستقبلية، جميعاً مخاطبو هذا البيان الذي يقوله الإمام: «أقبّل أيديكم».
حسناً، في هذا البيان نفسه – بيان آذر 1367 (تشرين الثاني/نوفمبر 1988) – يعلن الإمام تعبئة طلاب الجامعات والحوزات، وهذا له معنى خاص. يطالب الطلاب الجامعيين وطلبة العلوم الدينية بأن يكون لديهم تعبئة وأن يصيروا كذلك. هذا يعني أن التعبئة لا تقتصر على المجال العسكري فقط. يجب أن تكون التعبئة حاضرة في الميادين كافة بما في ذلك ميدان العلم – العلم الديني والعلم المادي -. التفتوا جيداً، فهذه نقطة مهمة. لقد حوّل الإمام الجليل التهديد إلى فرصة بهذا العمل. ما كان ذلك التهديد؟ أصدر الإمام هذا البيان العام في الرابع من آذر 1358 (25/11/1979)، وفي الحقيقة، أمر سماحته بتشكيل التعبئة، أي بعد نحو عشرين يوماً من السيطرة على وكر التجسس. جرت السيطرة على وكر التجسس في 13 آبان (4/11/1979)، وصدرَ البيان الأول للإمام وأمرُه في الرابع من آذر (25/11/1979)، بعدما وقعت تلك الحادثة في 13 آبان وسيطرَ «الطلاب أتباع نهج الإمام» على وكر التجسس وأخرجوا الوثائق من هناك، فغضب الأمريكيون بشدة طبعاً، وبدؤوا إطلاق التهديدات اللفظية والعملية. كان تهديدهم العملي أنهم أحضروا سفنهم الحربية تدريجياً إلى الخليج الفارسي، وهذه تهديدات طبعاً. بدلاً من أن يرتبك الإمام أو يخاف – عادة ما يرتبك رؤساء الدول، ينفعلون ويخافون ويرتعبون بمجرد أن تعبس أمريكا، لكن الإمام، كلا – جلبَ الشعب إلى الميدان على هيئة تعبئة عامة، أي حوّل هذا التهديد إلى فرصة، وهذا ما أدى إلى ألا تبقى ساحة المعركة محصورة في المؤسسات الرسمية، وأن يدخلَ أفراد الشعب كلهم. هذا هو تحويل التهديد إلى فرصة. كانت هذه من مهارات الإمام والمَلَكات التي وهبها الله له، إذ كان يحول التهديدات إلى فُرَص.
حسناً، ثمة نقطة مهمة هنا، وقد ذكرتها، وهي أنه رغم أنّ التعبئة تألقت في المجال العسكري إنصافاً – طبعاً، عندما أدلى الإمام بهذا البيان، لم تكن الحرب قد بدأت بعد، وفي وقت لاحق، عندما بدأت الحرب عام 1980، كان حضور التعبئة في ساحتها فعّالاً للغاية وحلّالاً للعُقَد، وكان بالمعنى الحقيقي للكلمة سنداً مهماً جداً للمنظمات العسكرية الرسمية مثل الجيش و«حرس الثورة الإسلامية» – وأنّ اختبار التعبئة في ساحة الحرب كان اختباراً رائعاً، لكنها ليست مجرد منظمة عسكرية، وهذه هي النقطة الأساسية. التعبئة أسمى من هذا الكلام، أي شأنها ومكانتها أسمى من [مجرد] تنظيم عسكري. ما هي؟ التعبئة ثقافةٌ، والتعبئة خطابٌ، والتعبئة فكرٌ.
ما هذا الفكر؟ ما هذه الثقافة؟ هذه الثقافة هي خدمة المجتمع والبلد دون تباهٍ ودون توقع مقابل، وهذا مهم جداً… دون توّقع، ودون أن يجلس وينتظر أن يقولوا له: «بارك الله». حتى في كثير من الحالات خوض الميدان دون إعطائه ميزانية ومال وإمكانات. في النهاية كل حركة تحتاج إلى إمكانات. إنه يخوض مختلف الميادين دون هذه الأمور ويؤدي خدمة جهادية ويشري أخطار الخدمة الجهادية بروحه. هذه هي ثقافة التعبئة. ماذا تعني ثقافة التعبئة؟ تعني الغرق في الوحل حتى الركب لإزالة الطين من غرف العائلات التي غمرتها السيول، وأن يعرّض نفسه لخطر الإصابة بكورونا والموت من أجل إنقاذ مرضى كورونا وإبعادهم عن الموت. ثقافة التعبئة تعني ألا يعرف الكلل خلال «المساعدة الإيمانية» التي عُرضَ علينا أحد نماذجها في هذا المعرض[3] الآن حين كنا ندخل إلى هنا. بالطبع أنا على دراية كاملة بما فعله التعبويون عبر إعلان «المساعدة الإيمانية» والتحرك في هذا الاتجاه، أو في المعسكرات الجهادية. هذه هي التعبئة، وهذا معنى ثقافة التعبئة. لم ينتظروا أحداً ليقول: «بارك الله بكم، أحسنتم». كلا، لقد ذهبوا على أي نحو استطاعوا، وفي بعض الحالات بأساليب مبتكرة ومثيرة للاهتمام، وعملوا على تنمية هذه المساعدة الإيمانية في البلد بأكمله. كانت التعبئة ذات فعالية في بيئة العلم والأبحاث والمختبرات، فالشباب الذين كانوا من أهل العلم والبحث والمعرفة، والذين لديهم روح التعبئة، [كانوا ناشطين] في المختبرات، سواء في قضية كورونا وغير كورونا أيضاً وفي مختلف القضايا. أحد نماذجها هم شهداؤنا النوويون. هؤلاء كانوا من التعبئة. هؤلاء تعبويون. من الأمثلة على ذلك المرحوم كاظمي[4] وهذا الجهاز المفصّل الذي دشّنه وبقية الأعمال العلمية والبحثية. هذه هي ثقافة التعبئة. ثم في ميدان مواجهة العدو أيضاً، أي ميدان الحرب العسكرية حيث خوض الميدان دون خوف أو خشية من العدو، ودون إعطائه فرصةً. هذه هي [ثقافة التعبئة]. الدخول في كل معركة سياسية وعسكرية وعلمية واستخدام الطاقات كافة. ثقافة التعبئة هي هذه. أن يكون المرء تعبوياً هي ثقافة المجاهدين المجهولين – كما ورد في بيان الإمام حين أشار إلى هذا المعنى أيضاً – وثقافة المجاهدين الذين لا ينتظرون مقابلاً. إنها [ثقافة] المخاطرة والشجاعة. هي تقديم الخدمة إلى الجميع والبلد. إنها بذل النفس من أجل الآخرين، وحتى أن تُظلَمَ من أجل خلاص المظلوم. لقد رأيتم في هذه الأحداث الأخيرة أن التعبويين المستضعفين تعرّضوا للظلم حتى لا يدَعوا الشعب يتعرض للظلم على يد حفنة من مثيري الشغب، الغافلين أو الجاهلين أو المرتزقة. إنهم يتعرضون للظلم ليمنعوا ظلم الآخرين. لا يسمحون لليأس أن يجد إليهم سبيلا. هذا من المكوّنات المهمة في ثقافة التعبئة. لا يوجد لليأس معنىً لدى التعبوي.
حسناً، كان هذا وصفاً إجمالياً للتعبئة والتعبوي. بالطبع، إذا أردنا الحديث في هذا الصدد، يمكننا التحدث تفصيلاً وإسهاباً بعبارات غنية بالمعاني والمضامين [لكن] مجمل الحديث هو الذي قلناه. لا ينحصر الأمر في [التعبئة] خلال الثمانينيات أو التسعينيات أو العقد الأول من القرن الجاري. أنتم [شبابَ] التسعينيات والعقد الأول من القرن الجاري وما شابه شبابٌ غِضاض. لم تروا الإمام ولا مرحلة الثورة ولا «الدفاع المقدّس»، لكن الروحية نفسها لذاك الشاب في ميدان الحرب موجودة فيكم. لا ينحصر الأمر في [شباب] الثمانينيات أو التسعينيات أو العقد الأول من القرن الجاري. هذا الكلام عن فجوة الأجيال وما إلى ذلك من الذي يقولونه، [أي] كلام «المثقفين» داخل «القعدات الثقافية»، مغايرٌ للحقائق. تعبئة اليوم هي نفسها تعبئة الثمانينيات.
طبعاً، هناك نقطة مهمة أخرى هي أن البلاد اليوم لديها قابلية لإنتاج التعبئة والتعبويين وإنماء إنباتات جديدة في التعبئة، وكذلك لدى التعبئة هذه القابلية لدفع البلاد نحو الأمام بخُطى وارفة. هذا يعني أن لدى البلاد الجهوزية لإنبات التعبئة وتجديدها، وكذلك التعبئة – منظمة التعبئة وعامة التعبويين، وسوف أتحدث عن هذا الأمر بعد قليل، إذْ لدينا تعبئة منتسبة وغير منتسبة – وعالَم التعبئة في بلادنا جاهزون لتطوير البلاد والمضي بها قُدماً. عندما قلنا إن البلاد لديها القابلية فهذه القابلية لم تنشأ حديثاً طبعاً، فقد كانت منذ زمن بعيد، لكنها كانت تُقمَع ولا يُستفاد منها. لقد كانت روحية إنتاج التعبئة هذه، بنفس الخصائص التي ذكرناها [مثل] الدخول إلى الميدان والشجاعة والتصدي للعدو، موجودة في عهد الحكومات الطاغوتية والعصور الماضية أيضاً، ولكن إما أن الأجانب كانوا يسيطرون على البلاد ويمنعونها ويقمعونها، وإما أن الحكومات نفسها كانت فاسدة.
حسناً، دوّنت هنا بعض الأمثلة على ذلك. فمثلاً خلال مرحلة التدخلات الأجنبية – تتعلق بهذه الحقبة من تاريخنا المعاصر وليست منذ زمن بعيد جداً – كان الشيخ محمد خياباني في تبريز تعبوياً بمعنىً ما، فقد انتفض وتحرك ثم استشهد. وفي مشهد محمد تقي خان بسيان (پسیان) كان على النحو نفسه. للأسف، إنكم لا تعرفون معظم سيَر هؤلاء. ينبغي أن تقرؤوا الكتب بكثرة وأن تطّلعوا على سيَر هؤلاء وتَعلَموها. في رشت الميرزا كوتشك خان جنكلي (ميرزا کوچکخان جنگلی). في أصفهان آغا نجفي [الأصفهاني] والحاج آغا نور الله [النجفي الأصفهاني]. في شيراز السيد عبد الحسين اللاري وبعض كبار العلماء الآخرين [مثل] الشيخ جعفر المحلاتي. في بوشهر رئيس علي الدلواري – بالمناسبة أُنتج فيلم عنه وعُرض – وطبعاً هناك حالات كثيرة في أماكن أخرى أيضاً، وتذكرت هؤلاء الآن فدونتهم. معظم هؤلاء قُمِعوا، أي جميعهم تقريباً – باستثناء حالة واحدة أو حالتين – قُمِعوا. إما أنهم قُمعوا أو لم يتلقوا المساعدة أو أن الحكومات وضعت العقبات أمامهم. [إذن] روحية التعبئة هذه كانت موجودة. لكن خلال مرحلة الثورة تنامت هذه القابلية أولاً، لأن الثورة كانت تمنح الأمل، فقد أدى الانتصار على نظام عمره 2500 عام – وفق قولهم – إلى تعزيز الروح المناهضة للاستكبار والاستبداد لدى الشعب، وغدت قابلية التعبئة هذه قابلية متنامية. ثانياً بثّ شخص على رأس البلاد مثل الإمام [الخميني] الجليل الحياة والروح في التعبئة، فصارت هذه القدرة حية وتحقّقت هذه القابلية.
لقد ذكرنا أن للتعبئة حضوراً فعالاً في «الدفاع المقدس». بالطبع، أحياناً كنا نرى بأنفسنا في تلك الأوقات بعض الأجزاء والزوايا لذلك الميدان العظيم. كنّا قد رأيناها، ولكن ما هو في هذه الكتب والسيَر مئات الأضعاف وربما آلاف الأضعاف لما كنا نراه بأم أعيننا. هناك أشياء عجيبة في هذه الكتب عن سير الشهداء والعظماء في ميدان الحرب بل حتى العظماء المجهولين الذين لم يكونوا قادة لمكان ما وكانوا مجرد تعبئة، لكنهم كانوا عظماء ويتمتعون بالعظمة. [هذا] يُذهل المرء حقاً. كان هذا ما يرتبط بميدان الحرب. [وأما] في البيئة العلمية كان العلماء النوويون وعلماء «رويان» وسائر مراكز العلوم والأبحاث والمراكز المختلفة الأخرى.
بحمد الله، لدينا اليوم في البلاد الملايين من أفراد التعبئة الرسميين والملايين من غير الرسميين. أولئك الشباب في المساجد والجامعات والاتحادات الطالبية والمدارس ومختلف الأماكن… الذين يؤدون أعمال التعبئة، وهم في الحقيقة تعبويّون لكن بصورة غير رسمية، أي ليسوا [أعضاء] في منظمة التعبئة. امتداداً لظاهرة التعبئة هذه في بلدنا توجد التعبئة في العالم الإسلامي. هناك أيضاً ملايين التعبويين في العالم الإسلامي – في مختلف البلدان – الذين لا يُتقنون لغتنا ولا نُتقن لغتهم، لكنّ لغة قلوبنا وقلوبهم واحدة، وتوجّهاتهم هي توجّهاتنا نفسها، وهذه أيضاً من بركات التعبئة.
حسناً، هذا تذكار الإمام [الخميني] وهو باقٍ اليوم وسيبقى غداً – إن شاء الله – وستشهد البلاد ثمراته. فمن بين العبارات التي وصف بها الإمام [الخميني] (قده) التعبئة: «الشجرة الطيّبة»[5]. تلك «الشجرة الطيّبة» نفسها التي في القرآن: {كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا (25)} (إبراهيم). ما يميّز الشجرة الطيّبة أنّها تؤتي أُكُلها وتُظهر نتائجها كلّ حين. قُلنا إنّ التعبئة لديها القدرة على دفع البلاد إلى الأمام، وسأقدم الآن بعض هذه الثمرات.
أولاً، أثبت حضور التعبئة في كل مرحلة حيوية الثورة وأنّها لا تزال حيّة. رغم أنوف أولئك الذين يرتعبون ويمتعضون من كلمة «الثورة» واسم «الثورة»، ولا يرغبون في أنْ يُذكر اسم «الثورة»، ويبرزون كُرههم لها وبراءتهم منها، لكن وجود التعبئة يُظهر أن الثورة حية ومتجددة ومبدعة. إذن، من ثمرات حضور التعبئة إظهاره تجدّد الثورة وحيويتها.
ثانياً، الروحية نفسها التي ذكرناها، فروحية العمل الجهادي دون مقابل أو تباهٍ وظهور، هذا بحدّ ذاته يُحدِث نقلة نوعية في البلاد. لا بركة في العمل من أجل الثناء والتباهي وإظهار النفس لهذا وذاك. إنّ هذا العمل نفسه دون مقابل، والعمل الجهادي، يضع البلاد على عجلة التقدّم ويدفعها إلى الأمام. هذه أيضاً إحدى بركات التعبئة وثمراتها.
ثالثاً، التعبويّ أينما أنجز عملاً، يجعل عنصر الروحانيّة بارزاً في ذاك العمل. هذا العنصر أمرٌ في غاية الأهميّة. العالِم البارز في مركز «رويان» حين يتوصّل إلى تقدّم علميّ معيّن، يسجد سجدة الشّكر. هذا ما أخبرني به المرحوم كاظمي أمام ذاك العالِم وذرفَ كلاهما الدموع. يقول تلميذ العالِم النووي البارز: حرنا في مسألة معيّنة، وكنا نعمل حتى وقت متأخّر من الليل – في جامعة الشهيد بهشتي – فقال لي أن تعال معي، فنهضنا وخرجنا من غرفة العمل، وذهبنا إلى المصلّى، وأخذني إلى داخل المصلّى وبدأ بالصلاة والدعاء، ثمّ فجأة قال: عرفتها! لقد حُلّت المشكلة، ثم نهض وعاد إلى هناك. لاحظوا، [تحضر] السجدة والدعاء والصّلاة في البيئة العلميّة وأجواء العمل النوويّ! حضور التعبويّ يجلب معه الروحانيّة في المجالات كلّها. هذا أمرٌ في غاية الأهميّة.
رابعاً، إلى جانب العملانيّة هو مثاليٌّ أيضاً – كذلك هو التعبوي – لأنّه أهلٌ للعمل والمبادرة. هو لا يكتفي بالكلام بل يعمل، لكن إلى جانب العملانيّة – فلا ينحصر بالعملانيّة فقط – هو لا ينسى المثاليّة، ويتحرّك نحو المُثل، فنسيان المُثل خطرٌ عظيم. هذه أيضاً واحدة من الثّمرات. وإذا أردت أن أعدّد ثمرات هذه الشجرة الطيّبة، فإنّها أكثر من هذا القدر، وقد ذكرتُ الآن ثلاثة إلى أربعة منها. هذه البركات متوافرة لدى التعبئة.
حسناً، لقد وصّفنا التعبئة كلّ هذا الوصف ونقلنا كلام الإمام [الخميني] الجليل والشواهد والأمثلة المتنوعة بشأن التعبويّين. هذه الأمور كلّها مشروطة بأن تحفظوا الروح التعبوية في أنفسكم، فيجب ألّا نغترّ بالاسم. نحن طلّاب العلوم الدينيّة إذا حافظنا على الروح الحوزوية، فسيكتسب وجودنا البركة، وإذا ابتعدنا عن الروح الحوزوية – إذ كان الإمام [الخميني] يحذّر مراراً المعمّمين الحاضرين في الأجهزة ويقول: حافظوا على الروح الحوزوية في ذواتكم[6] – وخرجنا من هذه الحالة، تزول البركة. كذلك حال التعبئة، فلا بدّ أن تحافظوا على الروح التعبوية… طبعاً بتلاوة القرآن وأداء المستحبّات بالقدر الذي تستطيعون وبقدر ما لديكم من نشاط. فلتلتفتوا إلى هذه الأمور بقدر ما لديكم من استعداد، ولتقرؤوا شروحات سِيَر الشهداء والشروحات والسّيَر عن هؤلاء التعبويّين الذين ذهبوا واستشهدوا وطُبعت كتب كثيرة [عنهم]، فلتقرؤوا ما استطعتم. حسناً، كان هذا في ما يرتبط بالتعبئة.
ثمة موضوعٌ آخر أريد أن أطرحه هنا حول مكانة التعبئة. أنا أصرّ على أن يعرف التعبويّ قدر التعبئة ومكانتها وفلسفة حضورها. أرغب في أن أناقش هذا الأمر باختصار. ما مَهمّة التعبئة؟ مَن تواجهون؟ هل تواجهون حفنةً من مثيري الشّغب في الشارع؟ هل تقتصر وظيفة التعبئة على هذه فقط؟ للتعبئة مكانةٌ بارزةٌ في الجغرافيا السياسيّة للعالم الإسلامي، ولا بدّ أن أشرح هذا الأمر قليلاً. طبعاً، لا بدّ لأهل الفكر والرأي، وأنتم الشبابَ، أن تلتفتوا بدقة وتفكّروا في هذه المسألة – ليس الآن فقط – وأن تتابعوا هذه القضايا بالمطالعة وإجراء النقاشات والتحاور والتفكير.
تمتلك جبهة الاستعمار الغربي مقاربة محدّدة لمنطقتنا المميزة هذه، غربي آسيا، هذه المنطقة التي يُطلقون عليها اسم «الشّرق الأوسط». وقد صار لدى الاستعمار الغربي، أوروبا أوّلاً ثمّ أمريكا، اهتمام خاصّ بهذه المنطقة بعد الحربين العالميّتين وبنى مقاربة محدّدة تجاهها، لماذا؟ لأنّها منطقةٌ مهمّة. فأهمّ عامل لتحرّك العجلات الصناعيّة للعالم الغربيّ مرتبطٌ بعنصر النفط. وهنا المركز الرئيسي للنفط في العالم. غربي آسيا هي منطقة الوصل بين الشرق والغرب، ومنطقة اتصال آسيا وأوروبا وأفريقيا. من ناحية المكانة الإستراتيجية، وبالتعبير الرائج من ناحية الجغرافيا العسكرية، إنها أكثر مسألة أهميّة. لذلك أوْلى المستعمرون الغربيّون، الذين كوّنوا ثروة معينة، واكتسبوا قدرات عبر نهبهم الدّول المُستعمَرة، وتقدّموا من الناحية العلميّة أيضاً، وكانوا يحملون سلاح التقدّم أيضاً، اهتماماً خاصّاً بغربي آسيا. وبسبب هذا الاهتمام أنشؤوا الكيان الصهيوني الغاصب في هذه المنطقة. جعلوا هذا الكيان الغاصب قاعدة للغرب في هذه المنطقة، قاعدة لأوروبا أوّلاً ولاحقاً لأمريكا، من أجل أن يتمكّنوا من السيطرة عليها، ويفعلوا ما يحلو لهم، ويُوقعوا بين الدّول، ويُحدثوا الحروب ويفرضوها ويُوسّعوها، وينهبوا. وقد أنشؤوا الكيان الصهيوني لهذه الغاية في الأساس. إذن، كان لديهم رؤية خاصة تجاه هذه المنطقة.
في غربي آسيا هذه هناك نقطة أهمّ من أيّ نقطة أخرى، وهي إيران. ففي هذه المنطقة، تُعدّ إيران الأهم من بين بلدانها، لأنّ ثروتها أكبر ممّا لدى هذه الدول كلّها: النّفط والغاز والمعادن الطبيعيّة، وكذلك النقطة التي يقع فيها هذا البلد أكثر النقطة حساسيّة. هي تَقاطعُ طرقٍ، تَقاطعُ الطرق بين الشّرق والغرب، وبين الشمال والجنوب. فقد كان يقال منذ القِدم إنّ إيران هي التقاطع المهمّ لهذه المنطقة. كانت لديهم حساسيّة تجاه إيران أكبر من الأماكن الأخرى كلّها. لذلك، عقدوا استثماراتهم على إيران. جاء البريطانيّون أوّلاً وتغلغلوا ما استطاعوا، فدخلوا وأنشؤوا المنظمات. لقد أعدّوا لأنفسهم مؤيدين ومرتزقة من فئات مختلفة. طبعاً إن قضية تكوين المرتزقة والمؤيدين هذه على يد البريطانيين في إيران هي قصة مفصلة! تحتوي على كم كبير من الزوايا والأركان المهمة التي قلّ ما رُويت وما كُتب عنها – للأسف – لكنها كانت حاضرة، فقد رأينا هذه الأمور ولمسنا بعضها من كثب وشعرنا بها. ثمّ جاء الأمريكيّون، وفي بداية مجيئهم، وفدوا تحت شعار المساعدة في عهد رئاسة ترومان[7]. البند الرابع من [مبدأ] ترومان كان المساعدة. جاؤوا تحت هذا الشعار في بداية الأمر، ثمّ بعدما رسّخوا وجودهم تدريجياً، أزاحوا الآخرين أو أضعفوهم، وسيطروا بأنفسهم على إيران. كان كلّ شيء بأيدي هؤلاء. إذا نظرتم في مذكرات رجال السياسة في العهد البهلوي، فسترون أنه حتى محمد رضا بهلوي، الذي كان خادماً للأمريكيين ويعمل لهم، يشكو منهم لكنه لا يجرؤ على قول ذلك. كان يفصح عن شكواه في اجتماعاته الخاصة مع أسد الله علم وأصدقائه المقربين. فالأمريكيون كانوا قد تقدموا إلى هذا الحد؛ إنّهم يتجبرون ويبتزون لدرجةٍ تجعل شخصاً مثل محمد رضا يشكو منهم. كان لديهم مثل هذه السيطرة على إيران.
طبعاً كذلك كانت الحال في سائر دول «الشرق الأوسط» أيضاً، كلٌّ بطريقة معيّنة. بالطبع، لم تقتصر تدخّلات هؤلاء، أي تدخّلات المستعمرين، على كونها من الغربيّين فقط، فالاتحاد السوفييتي السابق كان يتدخّل أيضاً، لكن لم يكن لديه سيطرة على إيران. أراد التغلغل عبر حزب «توده» والأحزاب اليسارية، وثمة ممارسات أيضاً يجب أن تقرؤوا عنها في التاريخ المعاصر. كان لديه نفوذٌ أكبر في بعض الدول الأخرى مثل العراق وسوريا، لكن الغرب كان مسيطراً في الوقت نفسه. هؤلاء كانوا يريدون التغلغل لكن فرنسا كان لديها حضورٌ حاسم في سوريا ولبنان على سبيل المثال، وأيضاً سائر الغربيّين والمستعمرين. هكذا كانت حال البلد ووضع المنطقة في واقع الأمر قبل انتصار الثورة الإسلاميّة، فقد كان هذا المكان نقطة مركزيّة.
فجأة حطمت الثورة الإسلاميّة في إيران كل أحلامهم. لقد وقع حدثٌ ما، إذ وجّهت الثورة الإسلاميّة ضربة قاصمة إلى هذه السياسة الاستعماريّة، فتاه هؤلاء. قبل أشهر من انتصار الثورة الإسلاميّة، جاء الرئيس الأمريكي[8] إلى إيران وكان يقول: هنا جزيرة آمنة. كان يقول عن إيران إنّها جزيرة آمنة. بعد أشهر، قرابة ثمانية أو تسعة أو عشرة أشهر، اندلعت الثورة الإسلاميّة في هذه الجزيرة الآمنة نفسها! هكذا جرت مباغتة هؤلاء، وظهرت الثورة أمامهم فجأة على هذا النحو، فدفعتهم إلى غور الانزواء الذي ترافق مع الخوف والتردّد والرّعب. هذه هي الحال التي أحدثتها الثورة. تحوّلت الثورة إلى سدّ منيع، وطردت هؤلاء. هرب بعض عناصرهم من تلقاء أنفسهم، وبعضهم طُردوا، وآخرون أُعدموا. بَنت [الثورة] سدّاً أمام حضور أمريكا والغرب في المنطقة عامةً.
حسناً، بُنيَت هويّة جديدة. فالبلاد حوّلت هويّة التبعيّة والتشبّث بأمريكا وبريطانيا إلى هويّة الاستقلال والصلابة، والاعتماد على النفس، والتحدّث بقوّة، ورفض الخضوع للابتزاز. كان مجمل الأمر: رفض الخضوع للابتزاز. لقد بَنَتْ سدّاً بهذه الطريقة، وطبعاً لم يبقَ هذا محصوراً في إيران، فقد قلنا حينذاك وقلت ذات مرّة في صلاة الجمعة[9] – لأنّهم كانوا يروّجون كثيراً في الخارج أنّ إيران تريد تصدير الثورة – قلت في صلاة الجمعة إنّ قضيّة تصدير الثورة في ثورتنا ليست كما حال تصدير الثورة في بعض الثورات الأخرى. ثورتنا كعطر الورود ونسيم الربيع، ولا يقدر أحدٌ على الوقوف في وجهها وهي تنتشر. حين تكون لديكم حديقة مليئة بالورود هنا، سينتفع جيرانكم والمحيطون بكم من عطرها، ولا يمكن لأحد أن يمنع ذلك، وهذا ما حدث ووقع. لقد استيقظت الشعوب في البلدان الأخرى. لم نكن ننوي أن نُنفّذ انقلاباً في بلد ما ونغيّر حكومته. لا، لم نسعَ وراء هذه القضيّة، لكن ثورتنا حوّلت على نحو طبيعيّ قلوب الشعوب المجاورة لنا وشعوب منطقتنا وغيّرتها وأثّرت فيها. طبعاً، هذه خصوصية إيران. وهكذا كانت الحال في النهضة الوطنيّة أيضاً. ففي النهضة الوطنيّة، [صحيح أنّه] عندما عمد مصدّق إلى إنجاز قضيّة النفط وأمثال ذلك تمّت الإطاحة به، لكن في الوقت عينه، كان الجميع يقولون إنّ قيام مصر على يد عبد الناصر[10]، وقيام العراقيّين عبر رؤساء الانقلاب العراقيّ، كانا نابعين من التحرّك في إيران. لقد تركت [النهضة] تأثيرها في ذلك الوقت أيضاً. لكن، أين النهضة الوطنيّة من الثورة الإسلاميّة؟
لذلك، كان عليهم التفكير في العلاج. ما الذي سيفعلون؟ ماذا سيفعل الغربيون الذين كانوا حتى الأمس يسيطرون على إيران وهذه المنطقة وفقدوا الآن كل شيء تقريباً أو يفقدونه؟ كان عليهم إسقاط حكومة الثورة والقضاء عليها. هذا هو الحل، فليس لديهم طريقة أخرى. ينظرون فيرون أنّهم لا يستطيعون ذلك. ما أقوله يعود إلى أربعين عاماً، وليس قضية اليوم. في ذلك اليوم، كانت الثورة لا تزال شتلة، ولم تكن شجرة ضخمة على هذا النحو، لكنهم كانوا خائفين من تلك الشتلة نفسها، إذ كانوا يعلمون أن ليس في استطاعتهم فعل ذلك، فالشعب الإيراني والقوة والثورة حاضرة في الساحات. كانوا يعلمون أنّهم غير قادرين على ذلك. أيضاً، حين بدأت الحرب المفروضة، وقد استمرّت ثماني سنوات، تعاون العالم كله مع صدام. رغم ذلك هُزم صدّام، وأدركوا أكثر أنّه لا يمكن مواجهة إيران، ومن الصعب مواجهتها. كانوا يرون امتداد الثورة الإسلامية والعمق الإستراتيجي لإيران في دول المنطقة. كانوا يرونه، ولذلك، فكّروا بأنّه لا بدّ من الذهاب إلى الدول المحيطة بإيران، هناك حيث العمق الإستراتيجي لها، قبل الهجوم على إيران – سواء الهجوم العسكري أو أي نوع من شأنه أن يُسقط الحكومة والجمهورية الإسلامية –. ولا بدّ أولاً من شلّ كل واحدة من هذه الدول التي هي على علاقة بالجمهورية الإسلامية والسيطرة عليها بطريقة ما. هذه الخطة قد كشفها الأمريكيون أنفسهم. ما أقوله ليس تحليلاً، بل هذه خطة الأمريكيين. هذه الخطة والمؤامرة كشفهما الأمريكيون أنفسهم عبر شخصيات أمريكية بارزة وشخصيات سياسية أمريكية معروفة، وذلك في السنوات الأولى من القرن الجاري، وعام 2006 وما بعده.
قالوا: هناك ست دول لا بدّ أن نطيح بحكوماتها قبل إيران. عندما نسيطر على هذه الدول الستّ ونُطيح بحكوماتها، سوف تضعف إيران. حينذاك، يمكن الهجوم على إيران. أين هذه الدول الست؟ وكل واحدة من هذه الدول لسبب ما. العراق واحد منها، لأنّ صدّام عندما أراد الهجوم على الكويت بعد الحرب [المفروضة]، رمى حبال الصداقة، فقد أطلق سراح سجنائنا، وكتب رسالة إلى هذا العبد وإلى رئيس الجمهورية آنذاك. كتب رسالة وبعث موفدين. لذا، كان صدام خطيراً. صدام، الذي كانوا يدعمونه حتى ذلك اليوم، غدا عنصراً غير مرغوب فيه عندهم. هذا العراق. ثانياً سوريا. لأن سوريا كانت إلى جانبنا منذ بداية الحرب في عهد حافظ الأسد[11]. لقد قطعت سوريا طريق النفط العراقي إلى البحر الأبيض المتوسط لمساعدتنا، وبعد ذلك قدموا كل مساعدة ممكنة. كانت رحلتي الخارجية الأولى خلال رئاسة الجمهورية إلى سوريا، أي أنّ علاقاتنا بسوريا كانت وثيقة للغاية. لذلك، تجب الإطاحة بالحكم في سوريا. ثالثاً لبنان. لماذا لبنان؟ لأن هناك قواعد ثورية قوية حليفة لإيران: «حزب الله» وحركة «أمل». رابعاً ليبيا في شمال أفريقيا. لأنهم كانوا يعلمون أن ليبيا قدمت إلينا الدعم في بعض الأحيان. كانت قد قدّمت دعماً عسكرياً كما كانت إلى جانبنا إعلامياً. خامساً السودان. كان للسودان أسبابه الخاصة التي كانت جليّةً، فقد كان قادته يزوروننا ويتردّدون علينا. كانوا على اتصال بنا في أوقات مختلفة بعد الثورة هناك وانتصارها. ثم [سادساً] الصومال، لسبب آخر.
كان لا بدّ من إضعاف هذه الدول الست وتدميرها وإسقاط حكوماتها. في الواقع، كان رأيهم أن العمق الإستراتيجي لإيران هو هذه الدول الست، وينبغي أن تسيطر عليها أمريكا والاستعمار، ثم يأتون إلى إيران. حسناَ، ماذا فعلت إيران؟ ماذا فعلت الجمهورية الإسلاميّة؟ لمْ تدخل الجمهورية الإسلامية إلى شمالي أفريقيا إطلاقاً. لا في ليبيا ولا في السودان ولا في الصومال… لأسباب واضحة لسنا في وارد ذكرها الآن. لم نرغب في الدخول ولم ندخل. لكن في الدول الثلاث، العراق وسوريا ولبنان، كانت سياسة إيران فعّالة. لم يكن لدينا وجود عسكري هناك، لكن العمل قد أُنجز. أُنجز عمل كبير ومهم. ماذا كانت نتيجة هذا العمل؟ هزيمة أمريكا في هذه البلدان الثلاثة. هؤلاء أرادوا السيطرة على العراق، لكن لم تتحقق تلك. أرادوا الإطاحة بالحكومة السورية، لكن لم تحدث تلك. أرادوا القضاء على «حزب الله» و«أمل» في لبنان. لم يحدث ذلك. لم يستطيعوا.
كانت هذه خطة ومخططاً أعدهما الأمريكيون بآلاف آلاف الدولارات، أي مليارات الدولارات، وآلاف الساعات من العمل الفكري لمئات أو ربما آلاف مفكريهم السياسيين. لقد أجروا هذه الاستعدادات من أجل إلحاق الضرر بإيران. لكن هذه الخطة والمؤامرة أحبطتهما القوة العظيمة والفعّالة للجمهورية الإسلامية، وكان المظهر والراية لهذه القوة العظيمة شخصٌ اسمه الحاج قاسم سليماني. صار من الواضح لماذا اسم الحاج قاسم سليماني محبوب لدى الشعب الإيراني إلى هذا الحد، ومبغوض لدى أعداء إيران إلى هذه الدرجة، إذ يغضبون ويغتاظون من ذكر اسمه. كان الحاج قاسم سليماني (رضوان الله تعالى عليه) الراية لسياسة الجمهورية الإسلامية في مواجهة العدو وقد أحبط المخطّط العميق للعدو.
حسناً، أيها التعبويين الأعزاء، أيها الشباب، الآن مع هذا البيان الذي أدليت به، جسّدوا مشهد المعركة بين الجمهورية الإسلامية والأعداء: أين ساحة هذه المعركة الكبيرة، أين القضيّة؟ ليست القضيّة بضعة أشخاص من أعداء الثورة داخل البلاد. حينئذ تعرفون سبب إصرار العدو على «الاتفاق 2»، «الاتفاق 3» [على شاكلة الاتفاق النووي]. ماذا يعني «الاتفاق 2»؟ الاتفاق الثاني يعني أن على إيران مغادرة المنطقة كلياً والتخلّي عن حضورها الإقليمي. ماذا يعني الاتفاق الثالث؟ يعني أن تتعهد إيران ألا تنتج أيّ أسلحة إستراتيجية مهمة، وألا تمتلك طائرات دون طيار ولا صواريخ، وإذا ما قرّرنا مهاجمتكم في يوم ما، فتعالوا وواجهوا دباباتنا بـ«ج 3» (G3) والبندقية! هذا معناه، وهذا [سبب] إصرارهم. وفي الداخل أيضاً، كان بعضهم يردّدون كلامهم، ربّما بسبب الغفلة. [إذن] هذه هي ساحة المعركة، وأنتم تقاتلون في هذا الميدان. إنّ حضور التعبئة في البلاد يعني التصدّي لمثل هذه المؤامرات الكبيرة. أنتم الذين ناضلتم ودافعتم عن العتبات المقدّسة، ووقفتم ضدّ جماعة أمريكية الصنع، أي «داعش». أنتم الذين ساعدتم مقاتلي لبنان الشجعان بأي طريقة ممكنة، كما ساعدتم الفلسطينيين أيضاً، ولا تزالون تفعلون، فلا نزال نساعدهم.
ميدان المعركة مثل هذا الميدان. هو ليس ميدان أربعة أشخاص من مثيري الشغب في الشارع. بالطبع، هذا لا يعني تجاهل هؤلاء. لا بل تجب معاقبة كل مثير للشغب، وكل إرهابي، ولا شكّ في هذا، لكن الميدان ليس مجرد هذه الساحة، فهو أوسع بكثير من هؤلاء وأعمق بكثير، وأنتم تقفون في منتصف هذا الميدان. أريد أن يعرف التعبوي قدره. اعرفوا قدر التعبئة. إنكم تقاتلون في مثل هذا الميدان. لا تشغلوا أنفسكم بهذه الأمور الجزئية من حولكم. بالطبع، تجب معالجة هذه الأشياء أيضاً، فهذه المواجهة مع مثيري الشغب من أهم مهمات التعبئة، لأن هؤلاء هم أدوات أولئك أنفسهم الذين أخفقوا في تلك الخطة الكبرى. لقد أخفقوا هناك، فيريدون دخول الميدان بطريقة أخرى، ولذا يطلقون أعمال الشغب هذه. أحدهم يهتف وآخر يكتب وثالثٌ يفعل شيئاً آخر. إذن، على التعبويين ألا ينسوا أن الصراع هو مع الاستكبار العالمي، فالمواجهة الرئيسية هناك. الآن هم يواجهون هؤلاء أيضاً، لكن العدو الرئيسي هناك، والمواجهة الرئيسية هناك. هؤلاء الأربعة إما غافلون أو جاهلون أو غير مطلعين أو تلقوا تحليلاً خطأً أو بعضهم مرتزقة. [لذا] العدو الرئيسي هناك، والمواجهة الرئيسية هناك.
هنا ما يبعث على الأسف حقّاً. يدعي بعض الناس الوعي السياسي لكن تحليلاتهم في بعض الصحف أو أجزاء الفضاء المجازي تجعل الإنسان يتأسّف حقّاً. يقولون: إذا أردتم أن تتمكّنوا من إنهاء أعمال الشغب التي بدأت في البلاد خلال الأسابيع الأخيرة وإسكاتها – مَن يقولون هذا هم أولئك الذين يدّعون أنهم سياسيون ومن أهل العمل السياسي وعلى اطلاع على الوضع العالمي! – فعليكم أن تعالجوا مشكلتكم مع أمريكا. يكتبون هذا صراحة! يكتبون صراحةً أن عليكم حل مشكلتكم مع أمريكا، أو يقولون: يجب أن تسمعوا صوت الشعب. لقد رأيت هذين التعبيرين في الكتابات: عالجوا مشكلتكم مع أمريكا، واسمعوا صوت الشعب!
حسناً، كيف تُحلّ المشكلة مع أمريكا؟ هذا سؤال حقيقيّ وجدّي. نحن لا نرغب في أن نتشاجر مع بعضنا بعضاً، بل نسأل: كيف تُحلّ المشكلة مع أمريكا؟ هل تُحلّ بالجلوس والتفاوض وأخذ الالتزامات منها؟ هل تحلّ بأن نجلس ونتفاوض معها ونأخذ الالتزامات كأنّ عليكم أن تفعلوا كذا وألّا تفعلوا كذا؟ في «إعلان الجزائر» بشأن قضيّة تحرير الرهائن عام 1981، جلستم مع أمريكا وتحدّثتم إليها. كنت آنذاك نائباً في «مجلس الشورى» – طبعاً لم أكن داخل المجلس بل في الجبهة، في الأهواز – وقد جلس هؤلاء السادة في طهران وتحدّثوا مع الأمريكيّين عبر الجزائر دون أن يقابلوهم – طبعاً كان قراراً من «مجلس الشورى» ولم يكن عملاً غير قانوني – فأبرموا اتفاقاً وأخذوا التزامات عدة: فلتحرّروا ثرواتنا، ولتزيلوا الحظر، ولا تتدخّلوا في شؤون بلدنا، ونحن في المقابل سوف نحرّر الرهائن. حرّرناهم، فهل عملت أمريكا بالتزاماتها تلك؟ هل رفعت الحظر؟ هل أعادت إلينا ثرواتنا المجمّدة؟ كلا! أمريكا لا تفي بالتزاماتها. حسناً، هذا في ما يرتبط بالتفاوض والجلوس مع أمريكا… أو بشأن بالاتفاق النووي. قالوا: لو قلّصتم نشاطكم الصناعي النووي – طبعاً لم يجرؤوا على القول بإيقافه كلياً – وخفّضتموه إلى هذا المقدار، فسوف نفعل هذه الأعمال: سنُزيل الحظر ونفعل هذا العمل وذاك. هل فعلوا تلك الأعمال؟ لم يفعلوها طبعاً. التفاوض لا يحلّ مشكلتنا مع أمريكا.
نعم، ثمة شيء وحيد يحلّ مشكلتنا مع أمريكا. ما هو؟ أن نرضخ لابتزازها. ليس مرّة واحدة، فالأمريكيّون لا يقتنعون أيضاً بالرّضوخ للابتزاز مرّة واحدة. نرضخ لهم اليوم فيعودون غداً ليعاودوا الابتزاز، ثمّ نعاود الرّضوخ، فيعودون بعد غد ويبتزّون بشيء آخر، ثمّ علينا الرّضوخ مجدّداً. اليوم يقولون: أوقفوا [التخصيب] النووي – أولاً يقولون: أوقفوا التخصيب بنسبة 20%، وبعدها 5%، ثم لملموا بساط البرنامج النووي – وبعد ذلك تغيير الدستور، ثم إزالة «مجلس صيانة الدستور»… الأمريكيّون يمارسون الابتزاز. عليكم أن تفعلوا هذا الأمر إذا رغبتم في حلّ مشكلتكم معها: أن ترضخوا للابتزاز باستمرار. هذا ما تريده أمريكا: أن تحبسوا أنفسكم خلف حدودكم، وتنفضوا أيديكم، وتوقفوا صناعاتكم الدفاعيّة. أيّ إيرانيّ غيور مستعدٌّ للرضوخ لمثل هذا الابتزاز؟ لا أتحدّث عن [المناصر] للجمهوريّة الإسلاميّة، فقد يكون أحدهم غير مقتنع بالجمهوريّة الإسلاميّة لكنّه إيراني ولديه الحميّة الإيرانيّة، وهو أيضاً ليس مستعدّاً للرضوخ لهذه الابتزازات. أمريكا ليست مقتنعة بأقلّ من هذا. لماذا لا يستوعبون؟ التفاوض مع أمريكا لا يحلّ أيّ مشكلة. إذا كنتم مستعدّين أن ترضخوا للابتزاز، وليس مرّة أو مرّتين، بل على نحو متتالٍ وفي القضايا الأساسيّة كلّها، وأن تتنازلوا عن خطوطكم الحمر، نعم، حينئذ لن يكون لأمريكا شأنٌ بكم، كما كانت الحال في العهد البهلوي. لقد ثار الناس [للتخلص من] هذا الأمر، وقدّموا هذا الكم من الشهداء من أجل ذلك. هذا البلد الذي يتقدّم على هذا النحو، وهؤلاء الشباب الذين يعملون على هذا النحو في الميادين كافّة، هل ينبغي التحدّث معهم بهذا الأسلوب؟ هل ينبغي أن يقال لهم هذا؟
أو يقولون: اسمعوا صوت الشّعب! لقد علا دويّ الشّعب كالرّعد في «13 آبان» من هذا العام، فهل سمعتموه؟ فلتسمعوا أنتم صوت الشعب. كم مرّ على تشييع جثمان الشهيد سليماني؟ تلك الحشود الضخمة كانت صوت الشعب الإيراني، وتشييع عشرة ملايين لذاك الجثمان أو يُمكن القول إّنهم كانوا أكثر من عشرة ملايين كان صوت الشعب الإيراني. تشييع جثامين الشهداء اليوم هو صوت الشعب الإيراني. ما إن يُستشهد شخصٌ في أصفهان وشيراز ومشهد وكرج، وفي أيّ مكان آخر، حتّى تنطلق جموع النّاس الغفيرة ويطلقون الشعارات ضدّ الإرهابيّ ومثير الشّغب. هذا هو صوت الشعب الإيراني، فلماذا لا تسمعون صوت الشّعب؟
حسناً، هذا ما أردت قوله في ما يتعلق بموضوع التعبئة. الوقت بدأ ينفد الآن، وأودّ أن أقدّم بعض التوصيات إليكم، أيها الإخوة [والأخوات] التعبويّون الحاضرون هنا وفي أيّ مكان آخر من البلاد حيث تسمعون هذا الكلام. النصيحة الأولى هي أن تبقوا تعبويّين! فلتسألوا الله أن يساعدكم على البقاء تعبويّين، ولتحافظوا على الروح التعبوية والإيمان التعبويّ.
الثانية: فلتعرفوا قدر أنفسكم، لا أن تتفاخروا. كلا! ميزة التعبويّ هي تجنب التفاخر، لكن اعلموا أيّ موضع مهمّ وفّقكم الله المتعالي لاختياره وقد اخترتموه، فلتعرفوا قدر هذا الأمر.
الثالثة: فلتعرفوا عدوّكم، ولتدركوا أوّلاً مَن هو العدوّ. لا تخطئوا في تشخيص العدوّ. وعندما تعرفون العدوّ، اعرفوا نقاط ضعفه ومكامن عجزه. يحاول العدوّ دائماً أن يُظهر نفسه لكم قويّاً وضخماً. حاولوا أن تعرفوا الحالة التي يعيشها العدوّ، وما هي مكامن الضعف والعجز ونقاط الضعف لديه. فلتعرفوا العدوّ ومخططاته. كثيرون يُباغَتون من مخططات العدوّ. [احذروا] أن تُباغتوا.
التوصية التالية هي تساميكم الروحي. فلتنظروا في مستوى تساميكم الروحي وتقيسوه. التفتوا هل تتقدّمون إلى الأمام أو تتراجعون إلى الخلف، هذا أمرٌ مهمّ. انظروا ما الأعمال الصالحة التي فعلتموها في الشهر الماضي وما الحركة الحسنة التي أديتموها، وأيّ مساعدة قدّمتم أو – لا سمح الله – ما العمل السيّئ الذي فعلتموه، وهل كَثُرَت أعمالكم الخيّرة في هذا الشهر أو قلّت؟ أو على سبيل المثال: ذاك العمل السيّئ الذي كنتم تفعلونه، هل زادَ فِعلكم له أو تراجع؟ قيسوا هذه الأمور. اسعوا إلى التقدم وحثّوا الخطى نحو الأمام.
حسناً، قلنا: فلتعرفوا أساليب العدوّ. إنّ أهمّ أساليبه اليوم التزييفُ ونشر الأكاذيب، فأهمّ ما يفعله العدوّ الآن، أي قنوات التلفاز هذه التي تعلمون وترون أنها تابعة للعدو أو الفضاء المجازي هذا حيث ينشرون خبراً كاذباً، وتحليلاً كاذباً، ويُقدّمون قتيلاً مزيّفاً، وكذباً يجعلون الأشخاص أحدَهم سيّئاً والآخر صالحاً، ويُصدّق بعض الناس ذلك أيضاً. فلتعلموا أنّ العدوّ يعمل اليوم من منطلق الكذب ونشر الأكاذيب. حسناً، حين تعلمون بذلك تترتّب مسؤوليّة على عاتقكم بطبيعة الحال. فلتُبيّنوا. هنا أحد مواضع «جهاد التبيين» الذي تحدّثنا عنه[12].
قلنا: تعرّفوا إلى نقاط ضعف العدو. واحدة من النقاط التي تضر العدوّ هي امتلاككم البصيرة، فهو يتضرّر من بصيرتكم. اسعوا إلى تعزيزها. يسعى العدو للسيطرة على العقول، فالسيطرة عليها ذات قيمة أكبر بكثير لديه من السيطرة على البلدان. إذا تمكنوا من السيطرة على عقل شعب ما، فإن ذاك الشعب سيقدّم أرضه إلى العدو بكلتا يديه. لا بدّ من صون العقول… [إذاً] السيطرة على العقول! بعض الأشخاص لم يكذبوا بأنفسهم لكنّهم أيّدوا كذبة العدوّ، للأسف. احرصوا ألا تقعوا وأناسكم في مثل هذه الأخطار، فلتساعدوا أناسكم.
أيضاً فلتحافظوا على استعدادكم العمليّ. لا تنبغي مباغتتكم. تحدث هذه المباغتات في عالم السياسة كثيراً. لديهم أساليب متعدّدة أيضاً، وسوف أذكر إحداها الآن. من ممارسات العدوّ أنّه ينفذ أمراً معيّناً في نقطة ما مع إثارة الجلبة والضجة لكي يلفت الأنظار كلّها إلى تلك النقطة، ثمّ ينفذ ذاك العمل الأساسي الذي يريده [في مكان آخر]. تكون الأنظار كلّها شاخصة نحو تلك الجهة، وغير ملتفتة إلى هذه الجهة. علينا جميعاً أن نكون حذرين خاصّة مسؤولي البلاد. ينبغي لمسؤولي البلاد أن يلتفتوا إلى أطراف البلاد وداخلها وخارجها والنواحي كافة، فأطراف البلاد مهمّة لنا أيضاً. بالنسبة إلينا غربيُّ آسيا منطقة مهمّة، والقوقاز مهمّة أيضاً، وكذلك المناطق الشرقيّة للبلاد. إنها كلّها مهمّة. يجب أن نكون متنبّهين إلى هذه الأماكن كلّها لندرك ما الذي يسعى العدوّ لفعله، وعلى الجميع أن يبذلوا الجهود في هذه المجالات. هنا توجد نقطة أيضاً، خاصّة خلال كأس العالم [لكرة القدم]. لقد أعدّوا لي فهرساً يضمّ الأعمال التي جرت خلال مختلف الفترات السابقة لكأس العالم، إذ استغلّوا عنصر المباغتة، لأنّ الأنظار كلّها شاخصة نحو كأس العالم خلال مدة كأس العالم التي تمتد أسابيع عدّة أيضاً. كثيرون يستغلون هذه الغفلة العالميّة وينفذون بعض الأمور. حسناً، ذكرنا كأس العالم. أقرَّ لاعبو منتخبنا الوطني عيون شعبنا يوم أمس، قرّت عيونهم، إن شاء الله. لقد أفرحوا الناس يوم أمس. كانت هذه توصية أيضاً.
قبل أن أقدّم التوصية الأخيرة، فلتحذروا من تغلغل العدوّ داخل مجموعة التعبئة. فلتلتفتوا إلى هذا الأمر: أحياناً قد يرتدي إنسانٌ فاسد وسيئٌ زيّاً مزيّفاً، ويزجّ بنفسه ضمن فئة ما، فيرتدي زيّ الحوزويين ويزيّف نفسه برداء الحوزويين. الشخص الفاسد والسيئ قد يُظهر نفسه بالزّي الحوزوي أو الزيّ التعبوي، فانتبهوا إلى هذا الأمر أيضاً، وهذه توصيةٌ أخرى أيضاً.
توصيتي الأخيرة هي آيةٌ قرآنيّةٌ: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (آل عمران، 139).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: موقع الامام الخامنئي