ادى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب الصلاة جماعة في مسجد لبايا (البقاع الغربي) والقى خطبة الجمعة التي قال فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين أبي القاسم محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الانبياء والمرسلين والشهداء والصالحين.
قال تعالى في الكتاب العزيز: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، متحدثاً عن مخلوق من نوع آخر له مهمة اخرى يختلف عن الملائكة فيهما مزود بإمكانات يتميّز بها تتناسب مع هذه المهمة كما للملائكة إمكانات تتميّز بها تناسب المهمة التي كُلّفت القيام بها، والفارق بينهما أن المهمة التي كُلّفت الملائكة القيام بها هي مهمات تكوينية في إدارة الكون وشؤونه تستدعي المعرفة والادراك لما تقوم به، فهي ليست مجرّد آلة تنجز عملها بلا اختيار، بل تقوم به عن معرفة وإدراك كما اخبرنا الله تعالى عن ذلك {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}، فهم يقومون بتنفيذ الاوامر الإلهية دون تلكؤ لجعل هذا الكون ملبياً لما يجعل الارض مهيأة لقدوم هذا المخلوق وهو الانسان الذي سيمتحن ويختبر بتلبية الاوامر الالهية الذي يستدعي تزويده بالاستعدادات الذاتية التي يتمكن معها من تطوير ادراكاته والتعرّف على ما حوله ،وهو ما يُعَبّر عنه بالاستجابة لمتطلبات الفطرة التي فطر الناس عليها وهي التعرف أولاً على حقيقته وأنه عبد مملوك لله تعالى لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا، وهو ما لم تكن الملائكة تعرفه ولا تدركه وكان سراً مكتوماً عنها حتى حان الوقت المناسب وهيأ الله تعالى الظروف الملائمة لإتمام الغاية من خلق هذا الكون، أطلعهم عليه من باب تعريفهم بما عليهم القيام به من وظائف يستدعيها ايجاد هكذا مخلوق ولهذا كان استغرابهم من باب الاستفهام عن الغاية والهدف من إيجاد هذا المخلوق، فهم لم يكونوا على اطلاع على الغاية من هذا الخلق الذي هو خدمة هذا المخلوق الآدمي الذي يشكّل أهم شيء في هذا الوجود، وهو ما حكاه حديث أهل الكساء الذين يمثلون النموذج الارقى للإنسان الذي بلغ القمة في الحصول على الكمالات الانسانية وامتثال العبودية التامة لله تعالى باختياره ،ولهذا قال رسول الله (ص) حاكياً عن الله تعالى: “يا مَلائِكَتِي وَيا سُكَّانَ سَماواتِي، إنِّي ما خَلَقتُ سَماءً مَبنِيَّةً وَلا أرضاً مَدحِيَّةً وَلا قَمَراً مُنِيراً وَلا شَمساً مُضِيئَةً وَلا فَلَكاً يَدُورُ وَلا بَحراً يَجرِي وَلا فُلكاً يَسرِي إلاّ فِي مَحَبَّةِ هؤُلاءِ الخَمسَةِ الَّذِينَ هُم تَحتَ الكِساءِ.
إنّ هذه المكانة العالية التي استحقها هؤلاء الخمسة التي عبّر عنها في هذا الحديث الشريف بمحبة الله وأن يكون خلق هذا الكون لأجلهم، إنّما كانت لقيامهم بالمسؤولية والوظيفة التي ترتّبت على هذا التميّز في الخلق واستخدامهم الامكانيات التي منحهم الله تعالى إياها وفضّلهم بها تكويناً أن يقوموا بها اختياراً وعلى أكمل وأتمّ وجوهها، ولم يكن أمراً مزاجياً أو استنسابياً أو لهوى، وإّنما طبقاً لموازين وقواعد عقلية ومنطقية، فالخلق يستدعي الشكر والاعتراف بالعبودية للخالق وإعطاء مقام الخلافة لله تعالى في إعمار الكون تحميله المسؤولية التي هي تكريم له عن سائر المخلوقات، وتحميله المسؤولية يستدعي المسائلة حيث لا معنى للمسؤولية بدون مسائلة حيث لن يتحقق الهدف وهو انتظام الحياة وإعمار الارض وتحقيق العدالة ومواجهة الفساد.
فالحياة مسؤولية تبتدأ بتأهيل النفس والذات وتحقيق الشروط اللازمة للانطلاق نحو الآخرين من الكفاءة المعرفية والعلمية وتزكية النفس وصلاحها حيث أن فاقد الشيء لا يعطيه، ومن كان مقصراً في تهذيب نفسه وفي تحصيل المعرفة التي يحتاجها لن يستطيع أن يصلح الآخرين ويعمل على الارتقاء بهم في مدارج الكمال، ومن كان جاهلاً بأسباب الوجود والحياة ومن الغاية منه فلن يستطيع أن يختار طريق الرشاد وسيخبط في عشواء ويضلّ الطريق كما اوضح ذلك أمير المؤمنين علي (ع) في خطبته حيث قال: ” أوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ، وَكَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِه، وَكَمَالُ التَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ، وَكَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ، الخ الخطبة …
إنّ توفير هذه المقومات فضلاً عن أنها شرط ضروري لتحصيل إنسانيته هي شرط ضروري للقيام بمسؤولية الخلافة التي شرّفه الله تعالى بها عن سائر المخلوقات، وكانت غاية لخلق الكائنات هذه المسؤولية التي تبتدأ بالمسؤولية عن نفسه أن يكون عبداً صالحاً وتنتهي بمسؤولية انتظام الحياة وإعمار الارض وتحقيق العدالة فهي تتدرج كل بحسبه الى المقرّبين من محيطه من أهله وأسرته الى جيرانه ثم الأقرب فالأقرب ثم الى الشأن العام الذي يتحمّل فيه الافراد مسؤولية مشتركة وهي مسؤولية جماعية أو مسؤولية المجتمع التي يُعَبّر عنها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى في سورة لقمان {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، في معرض الاهتمام بأهل البيت من الأبناء والأخوة ومن له مسؤولية مباشرة عليهم حيث أنّ الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر في عملية إصلاح وتربية واهتمام بالأسرة التي هي النواة الاساسية للمجتمع إن تمّ الاهتمام والاعتناء بها حصل المجتمع على المناعة اللازمة في منع الانحراف والفساد وفي بناء المجتمع الصالح، وأول ما أمر به رسول الله (ص) هو بالتوجّه بالدعوة الى عشيرته الأقربين، فلا يجوز من الناحية المنطقية والاخلاقية تسييبهم وتركهم لقمة سائغة للعابثين وأصحاب الغايات الخبيثة ليستخدموهم في مواجهة مجتمعهم ويجعلوا منهم أدواتاً للتخريب والهدم والفساد حين نهمل الاهتمام بهم وتربيتهم على الاخلاق الحميدة والتعرّف على شؤونهم وشجونهم وإعدادهم وتهيأتهم ليستطيعوا أن يكونوا رجال المستقبل الصالحين الذين يقدّمون أفضل ما لديه، وبقدر ما نزوّدهم به من الفكر والتوجيه ونعطيهم من العلم والمعرفة والقدرات التي لا تكفي أي العلم والمعرفة وحدها دون الاعداد والتربية والتوجيه، فالوالدين الصالحين هم من يقوموا بتربية وتوجيه ابنائهم والذي لا يحصل عند ما يفوت الأوان ويكبر الأبناء ويكون فكرهم وتوجههم قد اكتمل.
إنّ الاعداد لجيل المستقبل يبدأ من اختيار الأم الصالحة أولاً الى العناية به طفلاً الى السنوات الاولى ما قبل البلوغ، فهي الاعمار المُثلى للتوجيه والتربية التي إن أُعتني بها كانت كالنبتة التي إن استقام ساقها عند طراوة عودها استقامت فيما بعد من دون حاجة الى ما يسندها، إنّ الحاجة الى هذه العناية بالأبناء بالتربية والتوجيه هي حاجة طبيعية لمواجهة عوامل الفساد التي تستدعيها الميول والشهوات والغرائز، فضلاً عن عوامل الفساد الناشئة عن الفساد الاجتماعي والانحرافات الفكرية والنفسية التي تقف وراءها تيارات فكرية ضالّة وخصوصاً ما نعيشه من ظروف غير طبيعية ودعوات الى التفلّت الاخلاقي والانحرافات الاخلاقية كالشذوذ الجنسي التي تقف وراءها الصهيونية العالمية التي دمّرت المجتمعات الاوروبية كما يرى مفكروها، الصهيونية العالمية التي ترى في الأعراف الاجتماعية والاخلاقية التي تحكم مجتمعاتنا وتقف وراء قوة وحدة وصلابة مجتمعنا سداً منيعاً أمام اختراقه.
أيها الاخوة..
إنّ التكافل الاجتماعي الذي هو من صميم ديننا وتقديم الاعانة للمحتاج والفقير من لقمة الخبز الى حبة الدواء الى دخول المستشفى هي من الواجبات الدينية التي يقوم بها اليوم بعض أبنائنا ليس إلا بهذا الدافع التربوي والاخلاقي الذي تعلّموه من سيرة سيدّنا رسول الله وأهل بيته وأصحابه المخلصين الذين آخى رسول الله بينهم وتقاسموا لقمة الخبز وقد حاصرهم الاعداء بقصد النيل من إيمانهم والفت في عضدهم ودفعهم الى الاستسلام لإرادة العدو، ولكنّ إيمانهم بالله تعالى وبوعده بالنصر وصبرهم وتعاضدهم جعل النصر حليفهم.
أيها الاخوة الأعزاء..
إنّ الحديث عن المسؤوليات يطول وأسباب المعاناة وانهيار المؤسسات معروف ولا إشكال في أن بعضها يعود الى اسباب داخلية وفساد طال كل جوانب الحياة والمجتمع الموزع طوائف وأحزاب من الاسباب المهمة لهذا الخراب، وقد استفاد العدو المتربّص بنا الذي ضاق ذرعاً بالمقاومة وإنجازاتها وتحقيقها للردع للعدو بعد التحرير وما سبّبه من إحراج للأنظمة العربية التي استسلمت للأسف وذهبت الى الانهزام والتطبيع دعاها الى محاصرة لبنان ودعم بعض القوى الداخلية ودفعها الى تعطيل أي مسعى للحلول، كل ذلك من أجل تحقيق رغبة الخارج المعادي الساعي الى إلحاق لبنان بركب المطبّعين ونزع ورقة القوة الاساس التي يمتلكها لبنان من يده وهي المقاومة بالتضييق على لبنان وتحميل المقاومة المسؤولية، فهي حرب اقتصادية لأهداف سياسية وهي عضّ أصابع من يصرخ أولاً يخسر أولاً، لذلك فالمطلوب هو القليل من الصبر، { إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
إنّ المسؤولية تتحمّلها القوى السياسية وهي مدعوة اليوم الى الاستجابة لصوت العقل الداعي الى التلاقي والحوار وعدم الاستمرار بسياسة ليّ الذراع وتجاهل معاناة اللبنانيين والتسبّب بإطالة أمد معاناتهم، إنّ مغالاة بعض من يفترض فيهم أن يكونوا عامل تهدئة وتقريب بين اللبنانيين بالقيام بتصريحات لزيادة الإثارة والتأزيم للواقع الطائفي بتوجيه الاتهامات الباطلة لقوى المقاومة مورد تأسّف نربأ بأصحابها الانجرار الى هذا المستوى وندعوها الى الانصاف وعدم الاستمرار في هذا النهج الذي لا يصبّ في مصلحة أحد في لبنان، والعمل بدلاً عن ذلك بالتدقيق في الاتهامات والعمل على إيجاد المخارج الوطنية لحل الازمة السياسية الداخلية، حتى تعود مؤسسات الدولة للقيام بواجباتها الوطنية وتكون الحكم بين اللبنانيين ولتمتلك القدرة على مواجهة العدوانية والأطماع الصهيونية ليأمن الناس على حياتهم واستقرارهم.
إنّنا من هذا المنطلق الإيماني والمؤمن بوحدة الشعب اللبناني ووحدة مصيره ووحدة مصالحه وقيمه الايمانية نعيش ميلاد السيد المسيح روح الله وكلمته التي ألقاها الى مريم عليهما ونبينا السلام أمل استبشار وبشارة بغدِ أفضل للبنانيين مسلمين ومسيحيين وبأمل لمستقبل قائم على الحق والعدل والسلام.
المصدر: مراسل الموقع