شكلت القمة العربية الصينية التي انعقدت في الرياض، واحدة من أهم القمم السياسية – الاقتصادية التاريخية في العالم العربي، وهي فتحت دون أدنى شك صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية. وسيكون لها تأثيرات استراتيجية بالغة الأهمية على موقع المملكة العربية السعودية في خارطة القوى العالمية، وعلى العلاقات العربية الصينية بشكل عام. والأهم أن هذه القمة جاءت في اللحظة التاريخية الأمثل، وفي المكان المناسب، بينما يشتد النقاش حول النظام العالمي المُتعدد الأقطاب. لا شك إن توقيتها ومكانها لم يُحدّدا بالصدفة، وإنما نتيجة جهود هائلة للدبلوماسية السعودية والصينية على مدى سنوات طويلة، وتطور العلاقات العربية الصينية على مدى العقود الماضية، سياسيا واقتصاديا.
كذلك أتت هذه القمة في مرحلة تاريخية بالغة التعقيد والأهمية، بينما العالم يلتقط أنفاسه على وقع تطورات لم يشهدها منذ عقود، بدأت بجائحة كورونا و”جائحة” الركود الاقتصادي الذي يكاد يتحوّل إلى كساد، وشملت تراجع دور الاتحاد الأوروبي المشغول بتشظّيات الحرب الأوكرانية والصعود المدوّي لدول البريكس.
ومن البديهي اليوم أن نقول إن العالم العربي أمام فرصة قد لا تتكرر لتعزيز العلاقات العربية الصينية، والمضي قُدما في إطلاق المشاريع المشتركة مع الصين التي عرفت كيف تنتقل من دولة فقيرة إلى ثاني أقوى إقتصاد في العالم. ولدى البلدان العربية، أرضية قوية للإنطلاق في تعزيز علاقاتها مع الصين، إذ حقق الطرفان نموا مستمرا على مستوى التعاون الاقتصادي لعقود، ومن المتوقع أن يستمر هذا المسار خلال الفترة المقبلة. لقد ارتفعت التبادلات التجارية بين الطرفين من نحو 37 مليار دولار في العام 2004 إلى أكثر من 300 مليار دولار
في العام 2021. ووفق تقارير حديثة لمراكز أبحاث ودراسات، فإن الاستثمارات الصينية في الدول العربية بلغت نحو 213.9 مليار دولار بين عامي 2005 و2021، وهي بذلك باتت تمثّل أكبر مستثمر أجنبي في العالم العربي.
كما أقامت الصين علاقات شراكة استراتيجية شاملة مع 12 دولة عربية، كل على حدة، ووقعت أيضا على وثائق تعاون للمضي قدما في مبادرة “الحزام والطريق” مع 20 دولة عربية. وتلقت الصين تأييدا من 17 دولة عربية في ملف مبادرة التنمية العالمية، وانضمت 15 دولة عربية إلى البنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وتم إنشاء 17 آلية تعاون في إطار منتدى التعاون الصيني العربي. وتستثمر الصين في مبادرة الحزام والطريق مئات مليارات الدولارات لإنشاء موانئ وطرق سريعة وسكك حديدية لتسهيل التجارة مع بلدان العالم، وعلى رأسها الدول العربية.
أما الاستثمارات الصينية، فتوزعت على مجموعة من البلدان العربية. ووفق اتحاد المصارف العربية إستحوذت السعودية على 21 في المئة من إجمالي الاستثمارات الصينية في العالم العربي، تليها الإمارات مع 17 في المئة، والعراق مع نحو 14 في المئة، تليه مصر والجزائر مع 12 في المئة لكل منهما. وتتنافس السعودية مع روسيا على صدارة لائحة مصدّري النفط إلى الصين، كما باتت قطر إحدى أكبر مورّدي الغاز المسال إلى الصين بفضل عقود طويلة الأجل تم توقيعها مؤخرا. وفي العام 2021، بلغ إجمالي واردات الصين النفطية من الدول العربية نحو 264 مليون طن، تمثل 51.47 في المئة من إجمالي وارداتها للنفط الخام. وكان ملفتا إشارة الرئيس الصيني، إلى إن الصين ستعمل على شراء النفط والغاز باليوان، وهي خطوة من شأنها أن تدعم هدف بكين في ترسيخ عملتها دوليا وإضعاف قبضة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية.
ومن المُلفت أن الصين نجحت في توسيع وتنويع علاقاتها الاقتصادية مع البلدان العربية بشكل عام وبلدان الخليج بشكل خاص. وبعد أن كانت صادراتها تقتصر على الصناعات الخفيفة، تمكنت من التحوّل إلى أهم مصدّري الإلكترونيات المتقدمة تكنولوجيا، والآلات الميكانيكية والمركبات والهواتف وآلات معالجة البيانات والسيارات وغيرها من الصادرات التي لطالما كانت حكرا على أوروبا والولايات المتحدة وغير من البلدان المتقدمة اقتصاديا. وفي العام 2021 بلغت قيمة صادرات الصين إلى بلدان الخليج بحسب “ترايد ماب” Trade Map نحو97 مليار دولار، واستحوذت الإلكترونيات على معظم هذه الصادرات، وبلغت نحو 35 مليار دولار، تلتها الآلات الميكانيكية بقيمة 17 مليار دولار، والمركبات على أنواعها بقيمة 4 مليارات دولار.
ويبقى الأهم في العلاقات المتنامية مع الصين، هو وقوفها إلى جانب القضايا العربية المُحقة وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي تناولها الرئيس الصيني شي جين بينغ في كلمته خلال القمة، إذ قال إن القضية الفلسطينية تهم السلام والاستقرار في الشرق الأوسط، وتضع الضمير الأخلاقي للبشرية على المحك، ولا يمكن أن يستمر الظلم التاريخي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني إلى أجل غير مسمّى، ولا تجوز المساومة على الحقوق الوطنية المشروعة. وأضاف إن الصين تتطلّع إلى إقامة دولة مستقلة لا تقبل الرفض، مؤكدا أنه يجب على المجتمع الدولي أن يرسّخ الإيمان بحل دولتين.
وفي ظل الظروف الدولية التي تزداد اضطرابا خصوصا بعد الحرب الأوكرانية والتوتر المتعلق بتايوان التي تُعدّ جزءا من البر الصيني، ثمة العديد من القضايا التي يشترك العرب والصين في مواجهتها، وكلاهما يسعيان إلى دعم السلام والأمن حول العالم، ولديهما مصالح مشتركة ويسعيان إلى ترسيخ شراكتهما الاستراتيجية. بناءا على هذه المعطيات والحقائق، ثمة تاريخ جديد بدأت كتابه في القمة التي عُقدت في الرياض، ولا شك أن التاريخ يكتبه الأقوياء ممن يمتلكون جرأة ورؤية تتيح لهم توقع المستقبل والاستعداد له.
بقلم علي محمود العبد الله، رئيس تجمّع رجال وسيدات الأعمال اللبناني الصيني
المصدر: بريد الموقع