على وقع مؤشرات انهيار العملة اللبنانية، وما يستتبع ذلك من كوارث الإنهيار الإقتصادي والضمور الإستهلاكي، وانقلاب الحياة الإجتماعية للشعب اللبناني الى درجة أن الضروريات غدت كماليات، والكماليات باتت أحلاماً تلامس الوهم، وتمزُّق آمال الكثيرين بين عاطلٍ عن العمل لا يحمل سوى وجع الإنتظار، وعاطلٍ عن وطن حمل حقيبته وارتحل، يأتينا مَن يُنظِّر بما هو دستوري، ويأتينا خلفه مَن “يُدستر” نقيضه، في أغرب إدارة سياسية يُمكن أن يُعانيها بلد، تم تصنيفه مؤخراً لدى صندوق النقد الدولي أنه الثاني عالمياً في حجم التضخُّم.
ووسط اجتهاد أهل الفقه الدستوري، سواء مَن يقوننون جلسات مجلس النواب بين هيئة تشريعية وهيئة ناخبة، أو أولئك الذين يسردون أحكام الضرورة التي تُجيز لحكومة تصريف أعمال الإجتماع في ظل الفراغ الرئاسي، أو القائلين بعدم جواز ذلك، نشعر من خلال زحمة التصريحات “المونديالية”، أن الجميع يستهدف مرمى الجميع، والمطلوب من الشعب اللبناني أن يكون هو الحَكَم، فيما هو لا يحمل حتى صفَّارة، وممنوع عن الصرخة في ملعب التلاعب بمصيره، منذ مُنِع عليه أن يقول نعم أو لا في أي استفتاء شعبي لا يسمح به الدستور.
الاستفتاء…، نعم الإستفتاء، هذه النعمة التي تتمتع بها معظم شعوب البلدان الديمقراطية، لن ندخل الآن في أسباب عدم إقراره في لبنان، كي لا ندخل في جدلية الأكثريات والأقليات بين الطوائف التي نحترم ولكن، التمادي في تجاهل آراء الناس في مواضيع مُلزِمة لأية سلطة الرجوع فيها إليهم، سواء كانت وطنية أو سياسية أو معيشية، جعلت مواقع التواصل الإجتماعي مراكز استفتاءات كارثية بصرخات عقيمة للوجع المكبوت!
نُدرك حجم معاناتنا والكوارث، والأزمة الدستورية التي تُواكب مسألة انتخاب رئيس للجمهورية وما يتبع ذلك من وجوب تشكيل حكومة تلملم اشلاء مؤسسات الدولة ولكن، ليت لا أحد يخطب فينا بالسيادة المطلقة الفضفاضة دون محددات، إذا لم يكُن مواكباً لواقع المعموديات الوطنية في كل استحقاق منذ العام 2000 وحتى العام 2022، لا بل لم يتعايش معها،إن لم نقل أكثر، وكلمة سيادة على شفاه البعض باتت أشبه بالكلمات المتقاطعة، بل بلعبة “الكلمة الضائعة” لدى فرقاء لا طروحات علمية لديهم، ولا اقتراحات حلول لمئات الملفات الحياتية للشعب اللبناني، وبعضهم متورط بملفات فساد واضحة، ثم يخرجون على الناس بكلام عام فيه من “الشعارات السيادية” ما لا يفقهها رافع الشعارات نفسه!!
على كل حال، نقول كفى،
نقولها لأنفسنا كمواطنين وليس لبعض مَن يعتبرون أنفسهم مسؤولين،
كفى نتذابح بالمجَّان، وكفى نتقاذف بالوَهم، وكفى نحاول التعويض عن كمّ أفواهنا عن نعمة الاستفتاء الشعبي، بأن نتحول أدوات قدحٍ وذمٍّ وشتم بحق غيرنا وبحق أنفسنا، وهدر كراماتنا ونحر احترامنا لذواتنا، وكفى نكون بأيدي الغير كما أعواد الثقاب لإشعال الحرائق العبثية، عسى أن نتَّعظ من حكمة القادة الكبار في الإدارة السياسية، وخطابات قدوة الرجال في أدبيات التخاطب الوطني، وكفانا ننهش بعضنا في زمن الجوع، لأن الأحقاد المجانية لا تُسمِن ولا تُغني عن جوع.
لفتني مؤخراً أمرٌ في غاية الأهمية، أن شركات التوظيف في العالم، لم تعُد تكتفي بطلب السيرة الذاتية والشهادات العلمية والخبرات العملية لطالبي الوظائف، بل باتت تدخل صفحاتهم أينما وُجدت على مختلف مواقع التواصل الإجتماعي، ومن هناك تُقيّم الأشخاص وتحكُم وتقرر، وتجد نفسها معظم الأحيان في غنى عن مقابلتهم شخصياً!
إذا كانت المسألة على مستوى شركات التوظيف، قد بلغت هذه الحِرفيَّة في التعرُّف الى الأشخاص وسيرتهم الحقيقية عبر صفحاتهم الخاصة، سواء كانت “فيسبوك” أو “تويتر”، فما رأي أصحاب المعارك الإفتراضية في لبنان، وهُم مَن يرسمون الصورة العامة للمجتمع اللبناني وينشرون غسيله أمام المجتمع الدولي بهذه السلبية؟ ومَن يقول أن ما يحصل هو انعكاس للثقافة التي انحدر اليها مجمل الشعب اللبناني نتيجة أزماته، نقول: التعميم غير جائز ومرفوض، ومن الخطأ التفاعل مع هكذا نوع من السموم، لأن مَن يخطئون في التخاطب مخطئون إنسانياً ووطنياً، ولن يُبنى يوماً على أدبياتهم وطن…