جعفر خضور*
بتوقيتِ تموز الانتصار، وبزمنية استحضار الذكرى الحاضرة دوماً في العقولِ والقلوب، أطلّ صادق الوعد ومهندس الانتصارات المخطوطة بالدّم الطّاهر، والمكتوبة ببارودِ بنادقٍ ضغط على زنادها رجالٌ آمنوا بربهم، وعدوا وصدقوا، قاتلوا فغلبوا، السيد حسن نصر الله، معلناً معادلات جديدة منطلقةً من الإيمان بالقدرات المرتكزة لسردية التّاريخ المؤطّرِ بالنصر الكبير، ليطمئن قلوب المقاومين ويحيي في قلوبهم نشوة الفرحِ بذكرى حرب تموز التي دقّت المسمار في نعش مشروع الشرق الأوسط الجديد، وحملت مع لحظاتها الأولى عند الساعة 9:05 صباحاً من يوم 12 تموز، صدق الوعدِ وقوة العقيدة، فحسمت القرار وأحسنت الاختيار وغيّرت المسار قبل أن تبرُد فوهات بنادق مقاوميها، وليؤرق العدو المتبجّح بأمانيه الوهميّة مذكّراً إياه بالتاريخ الذي لم يتقدم فيه من بعده متراً واحداً.
عند الحديث عن المستقبل لا بد من تقييم الحاضر، الذي يحمل مقومات النجاح أو الفشل، الاستمرارية أو الانحسار، النمو أو الاضمحلال، لتكون مؤشرات التقييم مساعدةً في رسم الصورة المستقبلية المحتملة.
فإذا عدنا إلى جزئيات تاريخ المقاومة الإسلامية التي ربت ونشأت وترعرعت بين أهلها وفي أحضانِ أصحاب البصيرة، نجد كل عوامل القوة المتنامية والمطردة مع تفاقم حدّة الأزمات المتعاقبة التي ألمّت بلبنان أولاً، وبالمنطقة ككل ثانياً، والتي أثبتت فعلاً القدرة والاقتدار في صنع الانتصار.
يكتسبُ خطاب السيد نصر الله أهميته الكبرى من الحركة السياسية الحامية التي تشهدها الساحتين الإقليمية والدولية، ولا سيما في ظلّ زيارة الرئيس الأميركي جوزيف بايدن من جهة وفي الوقت الذي يسعى فيه إلى شدّ رباط العلاقة بين الكيان الصهيوني والدول المطبّعة على خلفية الحدث المستحدث بين روسيا وأوكرانيا من جهةٍ أخرى، في خضم التحضير لمواجهة أزمة الطّاقة العالمية الناتجة عن الإجراءات الروسية، فهو يسعى من خلال زيارته المبتدأة من البوابة الصهيونية التي وصّفت الزيارة بأنها مخيّبة للآمال، وبالأخص بعد تعيينه ساعة واحدة للاطلاع على المؤسسة العسكرية الصهيونية، يسعى إلى تطمئنة “إسرائيل” بالوقوف إلى جانبها من قبل أميركا، وجعلها مفتاح أنبوب الغاز إلى أوروبا، بعد أن يكون قد أقنع شركاؤها في المنطقة (دول الخليج) بزيادة انتاج النفط تحسّباً لما هو قادم وبطبيعة الحال ما يندرج ضمن حياكة الواقع الجديد المشكّل للعب دور مناوِر ربما.
في الصدد نفسه، وعلى الرغم من تهافت أخبار كثيرة شدّت الانتباه نحو أن الزيارة ستكون لإعلان “ناتو عربي – إسرائيلي”. ألا أنَّ الأمر لا يمكن حسمه الآن، أو بالحد الأدنى لا يمكن قرائته بمعزل عن التطورات الدّولية الحامية، التي برهنت حتى لمن يصبّ في كأس مشربهِ نقاط الأمل بالأميركي والصهيوني، عن تحريكهما للنزاع وليس الانغطاس الكامل فيه، وحتى على مستوى الاستثمار الممنهج والذي انقلبت نتائجه بشكلٍ عكسيّ ما دفع للتعاطي مع النتائج المخالفة بطريقة أخرى وبتكتيك جديد، على الضفة الأخرى.
إذ ما تكوّن فعلاً “ناتو” فأين سيكون دوره وموقعه؟
وهل سيكون حقاً قادر على التأثير وتحقيق حلم “إسرائيل” في الضغط على إيران؟
ولا يفوتنا التنويه إلى الاستشراف الرّوسي والإيراني لمراحل المحطات القادمة عبر توثيق التعاون الثنائي بينهما، فالغرب اليوم وبالرغم من حراكه الململم للجراح وقبل التفرّغ لانشغالات الجبهة الداخلية، يقع ضحية تناقض الرؤى واختلاف النظرات فيمن يتعاطى معه.
جاءت رسائل السيد حسن نصر الله باتجاهين لهما أبعادهما الاستراتيجية والكبيرة، الأولى إلى رمي الحجر في بركة المفاوض اللبناني الراكدة وحثّه على التحرّك الجدّي في ملف ترسيم الحدود البحرية، وعدم الخضوع والركون لمغبّات طلبات الطرف الأميركي، وهي رسالة وطنية بامتياز تعطي الفُرَص.
قبل اتخاذ قرار معادلة “كاريش وما بعدَ كاريش وما بعدَ بعدَ كاريش”، التي تحمل في مضامينها حربٌ بمعطياتٍ جديدة تدخل فيها شرايين الطاقة المغذّية لداخل الكيان الصهيوني في مرمى صواريخِ المقاومة التي تملك كل معلومات الميناء وإحداثياته وإمكاناته.
وبحسب الخرائط التي توضح توزّع الحقول في المياه الفلسطينية المحتلّة، فإن “ما بعد كاريش” يعني أن حقول “أثينا”، “تانين”، “دولفين” “ليفياثان” “داليت” و”أفروديت” باتت في مرمى نيران المقاومة وهي الحقول التي يرتكز عليها الاحتلال في استخراجه للغاز والنفط وتؤمن له حاجته الداخلية وتوفر له العائدات المالية. أمّا توسيع دائرة الاستهداف إلى “ما بعد ما بعد كاريش” يهدّد الحقول الواقعة قبالة شواطئ عسقلان المحتلّة وغزّة، وأهمها “كيرين”، “نوا” و”ماري بي” التي، إن حددت مدينة صور الجنوبية كنقطة إطلاق الصواريخ، فإن مياه غزّة تبعد حوالي 190 كلم.
أمّا الرسالة الثانية والأهمّ في سياق البُعد السياسي الساعي لفرض واقع جيوساسي جديد وهو ما أسماه السيد “بنسخة جديدة عن المشروع الشرق أوسطي الجديد”. والتي يمكن القول أنها فجّرت آمال أميركا وزرعت القلق في نفوس الصهاينة وبعثرت متن نصوص خططهم، هي المنع من الاستخراج ومن التغذية في آنٍ معاً، أي أن المقاومة الإسلامية دخلت على خطّ التوازن الدولي بعد أن نجحت وبامتياز في كل الاستحقاقات الإقليمية منذ ١٩٨٢ مروراً بحرب تموز وإفشال فكرة ربط القلمون بالحرمون، وصولاً لوضعها المعادلات الجديدة الأقوى والأبعد أثراً والممهدة لاتخاذ القرار البات المبرم التي كانت وما زالت تعمل جاهدةً على اتخاذه.
على صعيد قدرات حزب الله العسكرية، فإنه يمتلك صواريخ بر – بحر قادرة على اجتياز تلك المسافة ومن بينها صاروخ “نور” (كروز مضاد للسفن إيراني الصنع، يتراوح مداه من 120 كيلومتر إلى أكثر من 220 كم)، وكان حزب الله قد استخدمه في قصف البارجة الإسرائيلية “ساعر 5” عام 2006. وتعترف أوساط الاحتلال بترسانة حزب الله البحرية وتتوقّع امتلاكه لصاروخ “ياخونت” (مجنح مضاد للسفن) الذي يستطيع ضرب أهداف على بعد 300 كليومتر وله ميزات خاصة تسمح له بتخطي الرادات. بالإضافة الى الزوارق والغواصات.
في ختام الحديث، حمداً لله على نعمة المقاومة مغيّرة المسارات ومنجم الانتصارات ومقلع التطورات وحمداً وشكراً عظيماً على أعظم الشهور تموز، ففيه صُنعَ نصراً دحر مشروع سعى لصياغة المنطقة وفق أهواء أميركا، وفيه أيضاً وضعت معادلات لن تقلّ مفاعيلها عن مفاعيل معادلة “حيفا وما بعدَ بعدَ حيفا”.
فالمقاومة التي حررت وفكّت قيد الأسر وصاغت تفاهم نيسان بتغيير كلمة تحفظ انتصاراتها وتصنعها من جديد، لن تكون إلا المنطلق من كلّ نصرٍ وصبر نحو كلّ عزّ وشرف، سلاماً لوعدنا الصّادق.
اضرب بعصاك البحر فكلّنا معك وافلق أمواجه لنعبُرَ نحو الخلاص الأكيد..
*كاتب سوري
المصدر: بريد الموقع