السياسة هي حُسن إدارة الشأن العام، وليس من الجائز تحريف الأمور في لبنان عند كل خطوة إصلاحية تهدف لبناء دولة، عبر استنهاض الهمم للتغطية على الإرتكابات السياسية، ما قد ينطلي على شريحة واسعة من الناس، هي نفسها مع سائر اللبنانيين تدفع أثمان الفساد من أعلى الدرج الى أسفله، سيما وأن لبنان في المرتبة 143/180، في مؤشرات مدركات الفساد عالمياً، والفساد منظومة متكاملة تبدأ بصفقات اقتناص الملايين من الدولارات من دون محاسبة، وتنتهي بالرشاوى التي تنخر إدارات الدولة اللبناني.
وليس من الجائز أيضاً، التعميم في اتهامات الفساد، لأنه ليس محصوراً في طبقة سياسية تتربَّع على رأس الدَرَج، ولا في الطبقة الوسطى من الفاسدين المُنتفِعين من المحسوبيات، ولا في القاطنين أسفل الدَرَج من موظفين عموميين وسماسرة / قوارض مُعشِّشين في كل مرفقٍ عام، يحكمون شؤون المواطن كما عصابات التشبيح والتشليح، يتحكَّمون بمداخل الوزارات والإدارات الرسمية في لبنان ومنهم تبدأ عمليات امتصاص عرق الفقراء في لبنان.
منظومة الفساد هي شبكة عنكبوتية مُعَقَّدة، ولا تنحصر بشخصيات على رأس الدرج، بل هي تبدأ بالإدارة المالية للأموال السيادية وبالقيود المُحاسبية للمال العام، مروراً بالهِبات والمخصصات والسلفات ووصولاً الى أصول الصرف، وتتدرَّج نزولا الى التَرَف في الإنفاق على مقرَّات الوزارات والدوائر، والى التوظيفات العشوائية غير المُنتِجة والمحسوبيات، وتنتهي عند معاناة المواطن في دفع “الإكرامية” لتسريع أو إنجاز معاملته، أو “شوفة الخاطر” للموظف العمومي بمثابة ثمن “فنجان قهوة”، وانتهاء بتسمية “البرَّاني” الذي يُحقِّقه الموظف، والذي يتعدَّى بأشواط راتبه الشهري، والبرَّاني” يرتبط بمجموعة من الموظفين يتولُّون إنجاز معاملات الشركات وأصحاب الأعمال بشكلٍ دائمٍ، ويتقاسمون بدل هذه الأتعاب فيما بينهم وفق تراتبية تصل إلى رئيسهم الذي يوقِّع المُعاملة لقاء رشوة.
لهذه الأسباب قال النائب حسن فضل الله بأرقى أدبيات السياسة: “لم نُسَمِّ أحداً، ولا نتَّهم أحداً، والمُدَّعي هو القضاء”، في إجابته على أسئلة الإعلاميين المُحتشدين خارج مبنى النيابة العامة المالية، بعد أن أودعها المستندات التي توصلت اليها لجنة مكافحة الفساد التي شكَّلها حزب الله، والمسألة انتهت هنا بالنسبة للحزب، والمرحلة الثانية هي متابعة التدابير القضائية على ضوء التحقيقات التي بدأها النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم. وبما أن الرئيس السنيورة، اعتبر لإعتبارات شخصية أو سياسية أنه معني دون سواه بهذا الملف، وعقد مؤتمراً صحفياً اليوم الجمعة، فإن كل كلام سياسي لا يعنينا التطرُّق اليه في هذه المقالة، والأهم أنه قدَّم لائحة بإجمالي مصروفات ال 11 مليار دولار، لكن المشكلة الأولى هي في تفاصيل وآليات الصرف وليس بالأرقام العامة، والمشكلة الثانية هي في القيود المُحاسبية المُلغاة والمُستبدلة بأخرى، اضافة الى المستندات والفواتير التي تُبرِّر الصرف.
كان الأفضل للرئيس السنيورة لو استعاض عن مؤتمره الصحفي الخارج عن السياق، بتقديم الحسابات وتفاصيلها للمدَّعي العام المالي، تماماً كما فعل النائب حسن فضل الله، لأن اللجنة التي شكَّلها حزب الله برئاسة فضل الله، قامت بواجبها على أكمل وجه وبكل تجرُّد، ودون توجيه التُّهَم لأحد، وتركت الأمر للقضاء، والقضاء هو المُدَّعي، وعلى من يعتبر نفسه أنه مُدَّعى عليه، التعاون مع القضاء بالوثائق والمستندات دون الحاجة الى خطاب سياسي لا يحكي بالتفصيل لُغة الأرقام، والحُكم النهائي هو للقضاء، وفقاً للأرقام التي لا تمحوها كل المؤتمرات الصحفية…
المصدر: موقع المنار