سارعَ وليّ وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان لزيارة واشنطن، لتدارك الإنهيار الدراماتيكي في العلاقات الأميركية – السعودية، والتي من المرجَّح أنها لن تكون بخير، من خلال “الخطابات الراجمة” التي تنهال على المملكة من المرشح الجمهوري دونالد ترامب والمرشحة الديموقراطية هيلاري كلينتون، حتى غدا الهجوم على السعودية ورقة إقتراع وازنة في السباق الرئاسي الأميركي المُرتقب في الخريف المقبل، رغم الدعم المالي الذي تقدِّمه أطراف سعودية لمُرَشَّحيّ الحزبين، بحيث أن 20% من كلفة حملة كلينتون دفعتها السعودية وفقاً لما أوردته الوكالة الأردنية للأنباء “بترا” وتبرأت منه في اليوم التالي.
مهما قِيل من كلام ديبلوماسي مُنمَّق عن عمق العلاقات الأميركية – السعودية، وعدم تأثرها بالخلافات الظرفية، لكن من المؤكد أن هذه العلاقات باتت في أسوأ حالاتها منذ قيام مملكة آل سعود، وقد تصاعد التوتُّر منذ قرر الرئيس باراك أوباما الإنسحاب التكتيكي من رمال “الربيع العربي”، واستكمال دعم الإرهاب بالكفوف البيضاء عبر الأدوات السعودية والقطرية والتركية بإشراف خبراء أميركيين، وتبيَّن لاحقاَ أن لا نصر يُمكن تحقيقه بأدوات هي المموِّل والمحرِّض لجماعات إرهابية باتت في عقر الدار الأوروبية وتقرع أبواب أميركا، وأن خدمة مشروع أمن إسرائيل عبر خلق “إسرائيليات” مذهبية حولها، غدا مكلفاً لدرجة أن أمن أوروبا وأميركا والعالم أجمع قد بدأ يهتزّ، وأمن إسرائيل يمرّ بأحلك ظروفه، حيث أجرت منذ يومين مناورة غير مسبوقة منذ نشأة كيانها لإجلاء المستوطنين من الجليل.
أميركا الضامنة لإستثماراتها في السعودية، لم تعُد بحاجة للنفط السعودي، بعد أن تدفَّق لديها النفط الأحفوري الصخري، غير المتوفِّر في العالم حتى الآن سوى في أميركا والجزائر، مع دراسات متقدِّمة جداً لمواد الطاقة البديلة عن النفط، لا بل أن السعودية المُنهكة من انهيار أسعار النفط، هي التي تستجدي المزيد من الإستثمارات الأميركية، وجعلت موضوع البحث عن بدائل للنفط كمورد رئيسي للخزانة السعودية على أجندة زيارة محمد بن سلمان الحالية لواشنطن.
والأمور في الشارع الأميركي، وسط المعركة الإنتخابية الحادّة، بلغت شعبياً حدود تجاوز كل مصالح أميركا الخارجية، طالما الداخل يعيش أجواء “الإسلامو فوبيا”، وإن كانت في غالبيتها غير مبرّرة، ومنفِّذ العملية الإرهابية الأخيرة في مدينة “أورلاندو” عُمر متين، وإن كان من أصول أفغانية واعتاد زيارة أحد المركز الإسلامية وتبنَّت داعش عمليته، لكن الثابت من التحقيقات وعلى لسان الرئيس أوباما أن الرجل ليست لديه ارتباطات خارجية، والعمل يبدو حتى الآن فردياً، خاصة أن متين كان يتردَّد على نادي المثليين الذي كان هدف التفجير، وأنه يتعاطى أخطر أنواع المخدرات وكانت تصرفاته غير متَّزنة بشهادة صديق لوالده من أصول جزائرية، وقد عززت هذه الحقائق شهادة زوجته السابقة.
وما تُدركه أميركا ومعها أوروبا أن “داعش” ليست مجرَّد مجموعات إرهابية تحمل سلاحاً، بل هي فكرُ شيطانيٌ متنقِّل، وأميركا تُعاني من فلتان السلاح بين المدنيين، وشبابها يعيش حياة متفلِّتة من القيود الأسرية، واحتمالات حمل الفكر الداعشي وزرع الإرهاب واردة عند أي شابٍ أميركي أو أوروبي منحرِف، والخطاب الإنتخابي لـ “ترامب” وتخويف الأميركيين من خطر خارجي بالكامل يبدو أنه إستعراضي الى حدّ المبالغة، لإستقطاب الناخبين المذعورين من إرهابٍ يعيش أصلاً ضمن المجتمع الأميركي ولم يعُد مقتصرأً على أعمال السطو والنشل بل بات يحصد مدنيين دون أهداف مادية.
لكن من إيجابيات الخطاب الإنتخابي للطرفين في أميركا، رفع الهالة الأميركية عن السعودية كحاضنة إقليمية عادلة، سيما وأن اختيارها في أيلول / سبتمبر من العام 2015، ضمن “لجنة حقوق الإنسان الدولية” في الأمم المتحدة، هو عارٌ لا يُضاهيه سوى اختيار إسرائيل لرئاسة “اللجنة القانونية” منذ أيام، لكن التمايز في خطاب كلينتون عن خصمها ترامب يبدو عقلانياً، خاصة أن الرئيس أوباما كانت له ردَّة فعلٍ قاسية على محاولة ترامب زرع المزيد من الكراهية للمسلمين على خلفية العملية الأخيرة في مدينة “اورلاندو”، بينما وجَّهت كلينتون سهامها نحو الحكم السعودي وبعض دول الخليج الداعمة للإرهاب، وإذا كانت المملكة بنظر ترامب تلك البقرة الحلوب التي تدرُّ ذهباً ويجب ذبحها بعد أن يفرغ ضرعها، فهي بنظر كلينتون كما أوردت في كتابها “خيارات صعبة” الشريك الأول لأميركا في صنع داعش ودعم الإرهاب، وتكرر نفس الإعترافات خلال حملتها الإنتخابية.
وإذا كان ترامب سيدفع في الإنتخابات ثمن راديكاليته ليس ضدّ المسلمين فحسب، بل ضدّ جارته المكسيك التي ينوي بناء جدار فصلٍ معها لضبط الدخول غير الشرعي الى الولايات المتحدة، فإن العداء مع السعودية بات ضمن أساسيات برنامجه الرئاسي، وكلينتون تتعرَّض لإنتقاداتٍ من الجمهوريين، وعلى رأسهم العضو البارز “راند باول”، مُطالبين إياها بردِّ الأموال السعودية، كما أن كلينتون مُطالبَة حتى من ضمن من يُديرون حملتها الإنتخابية، أن لا تقبل مساعة مادية سعودية في حملتها، سيما وأنه سبق للسعودية أن تبرَّعت بمبلغ 25 مليون دولار عام 2008 لمؤسسة كلينتون الخيرية التي يملكها زوج هيلاري الرئيس الأسبق بل كلينتون، وأن العلاقة المالية بين هذه العائلة الأميركية والعائلة الحاكمة في السعودية قديمة العهد، وقد تؤثر سلباً بعض الشيء على وضع كلينتون الإنتخابي وسط الكراهية التي تسود الشارع الأميركي للسعودية حالياً.
الأشهر الباقية من عهد أوباما، ستشهد المزيد من تدهور العلاقات، مع مملكة قررت أميركا اعتبارها أداةً ضمن مسلسل “ربيع عربي” لم يجلب سوى الدمار والقتل والتهجير، دون تحقيق هدف استراتيجي واقعي يخدم أميركا وأمن إسرائيل حتى الآن، والضغوط الأوروبية على أوباما تضاعفت، لأن الضرب يحصل في خاصرة أوروبا الغارقة باللاجئين وحَمَلة الجنسيات الأوروبية من أصول شرق أوسطية وإفريقية، وهذا الإرث سوف ينتقل من أوباما الى أحد وريثيه، ولن يتضمَّن سوى المزيد من العداء، لمملكة ارتضت لنفسها أن تكون أداة استعمالٍ مؤقت وانتهى دورها وانتهت صلاحيتها…