خليل موسى موسى – دمشق
قد تكتفي عدسات الكاميرات بالتقاط عينات من الصور لوجوه تكون نماذجَ لألم مكدّس في الصدور، إنما لن تتسع الضمائر لمآسٍ دامت طيلة أربع سنوات ونصف، مرت بطيئة على من ينتظرُ واقفاً على خيط رفيع من الأمل، خيطٌ يحيك لحظات التّرقّب الطويلة، بين البحث والسؤال المتكرر حول مصير من اختطفه غدر الإرهاب إلى غياهب الأسر، العديد خرج، لكن بقي كثيرون خلف سراديب المجهول، ومعهم الكثيرون ينتظرون ما ستخبر به سنوات ربما لا خبر فيها.
الدفعة الأخيرة من المختطفين خرجت من دوما، والآلاف توزعوا لانتظارهم بين المعبر عند مخيم الوافدين على أطراف آخر معاقل الإرهاب، وبين صالة الفيحاء في دمشق، حيث نصّت الترتيبات على أجواء احتفالية بأخذهم إلى الصالة ولقائهم ذويهم، لكن هذه الأجواء لم تكتمل عند الجميع فكانت الفرحة ناقصة.
الأجواء في صالة الفيحاء بدمشق بين الفرحة والغصة..
صالة تتسع للآلاف غصّت بقاصديها، منهم من لم يستطع ضبط مشاعره خلال الانتظار، ومنهم من جعله الاضطراب والترقّب يفقد صبره منادياً من له من مختطفين باتوا مجهولي المصير، ليتكرر السؤال بين الحين والآخر عن موعد وصولهم إلى الصالة.
من بين الجموع لمَعت دموع جلنار ابنة الخمسة عشر عاماً – وخمس سنوات انتظار، فتاةٌ رأت والدها على الشاشة أثناء مواكبة وسائل الإعلام لخروج آخر دفعة من المختطفين عند معبر الوافدين، فهرعت مع أقاربها للقائهم، لقاءٌ موعود بكل احتمالات الفرح بعد غيابٍ دام ملايين الدقائق عند طفلة تعدُّ الثواني في انتظار حضن والدها المغيب قسراً علّه يعود ويرعاها.
جلنار كان لها ما أرادت، فعانقت والدها بشوقهما المتبادل لتحترق بهذا المشهد سنوات قهرهما، ويطفئان بدموع الفرح نار الحرمان الطويل بين أب وطفلته.
شبان ورجال ونساء وصلوا أخيراً إلى حريتهم بعد طول غياب وعذاب، غسلوا وجوههم بماء اللقاء المرتقب، وكلما دخل شخص منهم إلى الصالة، يبحثُ بلهفة المذهول عن ذويه الذين بدورهم يستهدفون مدخل الصالة، مصوِّبين عيونهم بتركيز قوي يقتنص ملامح الداخلين علّها تكون لمن ينتظرونه.
ضمن الأجواء ذاتها، ثمة مشهد لم يكتمل بالفرح، فالمئات من المخطوفين خابت آمال أهلهم الغارقين بعلقم الغصة، من عدم وصول ذويهم.
هنا يقطع المشهد صرخة أمٍّ مكلومةٍ على ولدها، “أين أنت يا علاء” تناديه من بين الجموع، لكنه لم يستجب، فتبكيه، ويستعر بداخلها لهيب فترة جديدة من المصير المجهول لولدها، هي واحدة من بين المئات، تسأل بأعلى صوتها، أين بقية الأولاد، وتعيد النداء “اين أنت يا علاء”، في حين يتوجه الأهالي للمحررين بالسؤال عن أسماء ويعرضون عليهم صوراً لأشخاص مختطفين لم يصلوا، علّ المخطوف المحرر يعرف أو التقى بأحد مجهولي المصير خلال الأسر.
مصير مجهول لآخرين وعدد المحرَّرين صادم، وأسماء سجون جديدة..
بين الصدمة والدهشة والبكاء، تلقّى الآلاف من الأهالي خبر خروج آخر دفعة من المخطوفين، وتوقف التعداد عند 200 شخص فقط، فكل واحد منهم يتأمل خروج المزيد.
من ثم بدأ توارد الأخبار مع المحررين الخارجين من دوما، حول اسماء عديدة لسجون غير سجن “التوبة”، هذه السجون حسب ما يقول الأهالي ضمّت الآلاف من المختطفين عبر سنوات الحرب، ومن المفترض – كما يرى الأهالي- خروجُ عددٍ أكبر مما خرج بكثير، كما بدأت تتردد استفساراتهم حول مصير أبنائهم، وما إذا كان “جيش الاسلام” الإرهابي قد سلّم كامل المختطفين، وهل هذا العدد المتبقي منهم حقاً، – حسبما يريد الأهالي السوريين معرفته، ومن ضم تلك السجون التي يتردد حديث عنها سجن “الباطون” وسجن ” الأربعة أصفار” وأسماء أخرى غريبة، بانتظار الكشف عنها مع خروج آخر إرهابيي دوما.
هنا تجدد الانتظار لمصائر مجهولة بالمئات وربما الآلاف، وجوه الأهالي من أمهات وآباء وأبناء وبنات، لم تسمح للناظر إليها بإمساك نفسه عن القهر الواصل عبر عيون تبكي غصة خيبة الأمل، فبلل المشهد طريقاً جديداً من البحث عن إجابات لا يملكها إلا من اختطف الناس وقتل أعداداً منهم، تاركاً الحقائق لما ستكشفه الأيام القادمة من ويلات تحوم ضمن احتمالات مصائرهم لا يتمناها أهالي المختطفين.
المصدر: موقع المنار