نص الخطبة
(يا أيّها المزمل* قم الليل الا قليلاً* نصفه او إنقص منه قليلاً* او زد عليه ورتل القرآن ترتيلاً* انا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً* ان ناشئة الليل هي اشد وطئاً واقوم قيلاً* ان لك في النهار سبحاً طويلاً* واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلاً)1 – 8 المزمل.
من المعلوم ان الجانب الروحي هو عنصر اساسي في بناء الشخصية المؤمنة بحيث أن الشخصية الإسلامية لا تكتمل من دون هذا الجانب ومن دون العمل على تربية النفس تربية روحية، ومن دون الاجتهاد في بناء علاقة صحيحة وقوية مع الله.
والمقصود بالجانب الروحي في شخصية المسلم الصلة الداخلية للمؤمن باللّه تعالى، والانشداد النفسي والقلبي والعاطفي نحو الله تعالى، من حيث الايمان والحب والاخلاص ، وما يرافق هذه المعاني الثلاثة الرئيسية من خوف ورجاء ثوابه وتواضع لله وخضوع له..
ان المضمون الداخلي المرتبط باللّه تعالى هو الجانب الروحي وهو الذي يشكل الاساس الذي يبني ويقوم الشخصية الاسلامية ويدفعها للعبادة، للصلاة والصيام والقيام والذكر والنوافل.. كما ان العبادة والصلاة والصوم والذكر تؤثر في الانسان فتزيد في الايمان، والحب، والاخلاص، والخوف، والرجاء.
المطلوب من الانسان المؤمن ان يبني هذه العلاقة الداخلية باللّه، وينميها، ويقويها، ويحصنها، ويحفاظ عليها.
وكلما متن الانسان علاقته بالله وارتباطه به و وزاد حبه وإخلاصه له وشعر بانشداد نفسي وقلبي وعاطفي نحوه، كلما اندفع نحو عبادته ونحو تحسين أخلاقه وتعامله مع الناس كما يريد الله، وكلما كان عبادا ومصليا ومطيعا لله كلما كان تعلقه وإيمانه وحبه واخلاصه لله قويا ومتيناً ومتماسكاً.
هذا الجانب الروحي وهذه التربية الروحية أكد عليها الإسلام تأكيدا كبيرا وأراد من الإنسان أن يلاحق نفسه باستمرار من أجل تعميق ارتباطه وإيمانه بالله، وأن يتوجه نحو عبادته وطاعته بما يعزز من إيمانه وحبه وإخلاصه له، لكن ليس الى الحد الذي ينصرف الانسان الى هذا الجانب ويعتزل الحياة ولا يراعي الجوانب الأخرى التي هي جزء اساسي من الدين أيضاً وجزء مكمل للشخصية الاسلامية.
هناك تصوران كلاهما خاطىء:
الاول: هو ان البعض يتصور بأن الشخصية المؤمنة هي الشخصية التي تعمل على تعزيز وتنمية الجانب الروحي وتقوية العلاقة بالله والتوجه نحو العبادة فقط، فتعتزل الحياة الدنيا والحياة الاجتماعية والسياسية والجهادية، وهذا تصور خاطىء وناقص يخالف تماما التصور الاسلامي الصحيح .
التربية الروحية والاعداد الروحي وتقوية الجانب الايماني والعبادي هو جزء من الدين أكد عليه الاسلام، وهو احد مكونات الشخصية الاسلامية وليس كل مكوناتها فهناك مكونات وجوانب اخرى للشخصية الاسلامية لا بد من الاهتمام بها .. فالشخصية الاسلامية هي الشخصية التي تتعبد لله وتقوي علاقتها بالله، وايضا هي الشخصية التي تفهم الاسلام وتتحسس بآلام المسلمين وتدافع عنهم وتتحمل مسؤولياتها السياسية والجهادية والاجتماعية.. هي الشخصية العالمة المتفقهة الخلوقة، التي يشير لها الناس بالخلق الحسن، وطيب المعاملة، ولين العريكة .. الشخصية الاسلامية هي كل هذا.. الشخصية الاسلامية هي التي تفهم الاسلام وتعيه وتجسده في الفكر والروح والسلوك الشخصي والتعامل مع الناس وتتحمل المسؤوليات المختلفة.
فإذن: الإهتمام بالجانب الروحي والعبادي واعتزال الحياة هو سلوك وتوجه خاطىء.
التصور الثاني: هو في مقابل التصور الاول، هناك سلوك وتوجه آخر معاكس لهذا التوجه وهو ان البعض يتصور ان العمل السياسي والرسالي والجهادي هو الاساس والمهم في الشخصية المؤمنة والرسالية وليس الاساس هو الجانب الروحي والعبادي، فيقلل من قيمة العبادة والنوافل والمستحبات والتضرع والتبتل الى الله.. وهذا اتجاه سلوكي خطير لا يقل خطورة عن الاتجاه الأول والتصور الاول، وهذا التصور ناشىء عن غفلة بعض العاملين عن أهمية البناء الروحي، والتوجه الى الله في العمل السياسي والإداري والجهادي، أو ناشىء من غرور بعض العاملين الذين يعملون بالعمل الجهادي وبالمقاومة بأن هذا العمل أعلى قيمة وأعظم أجرا وثوابا من العبادة والصلاة والنوافل وقراءة القرآن والأدعية وغيرها! .
فبعض العاملين قد يتصور ان العمل الإداري والسياسي والجهادي يغني عن البناء الروحي والتربية الروحية والمداومة على ذكر اللّه تعالى والتضرع الى الله، البعض الآخر قد تلهيهم مشاغل العمل والتنظيم والجهاد والمقاومة عن البناء الداخلي والروحي وما يتطلب من جهد وأعمال وعبادات ورياضات ومداومة على متابعة النفس الآمارة بالسوء وتهذيبها وتزكيتها وتدريبها على الطاعة والالتزام.
حاجة الانسان الذي يعمل في إطار المل الجهادي والمقاومة الى البناء الداخلي والاعداد الروحي تفوق حاجة الآخرين العاديين.
الشيطان لا يترصد هؤلاء ولا يتربص بهم ولا يبادر الى اغرائهم ووسوستهم كما يبادر الى اغراء ووسوسة اولئك الذين يعملون في صفوف المقاومة ومواجهة الاستكبار والإحتلال وأدواته، ولا يتعرض اولئك للإستهداف المباشر ولمخاطر الإختراق والإنزلاق كما يتعرض العاملون المجاهدون ، ولا تشبه خطورة سقوط واحد من عامة الناس خطورة سقوط انسان يعمل في المقاومة فإن الانسان المجاهد الذي يعمل في مسيرة متلألئة كمسيرة حزب الله اذا سقط لا يسقط وحده وانما قد يعرض المسيرة كلها للتشويه .
فالعاملون والمجاهدون بحاجة اكثر من غيرهم الى تعزيز الجانب الروحي وتقوية الايمان والحب والاخلاص لله والتعبد له باستمرار، ما يحتاجونه هو أن تبقى روح التوجه إلى الله حاضرة في العمل والسلوك حتى في غمرة الانشغالات والمتابعات التنظيمية والجهادية، وأن لا يصرفنا العمل والجهاد عن تعزيز الارتباط بالله والعبادة له والوقوف بين يديه.
لذلك نجد ان القرآن الكريم يؤكد على أهمية البناء الروحي للعاملين بشكل خاص ويربط بين الجهاد وبين التوبة والعبادة والركوع والسجود، يربط بين هذين الجانبين من شخصية المؤمن المجاهد ربطاً وثيقاً.
يقول تعالى: (ان اللّه اشترى من المؤمنين انفسهم واموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل اللّه* فيقتلون ويقتلون وعداً عليه حقاً* في التوراة والانجيل والقرآن* ومن أوفى بعهده من اللّه فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به* وذلك هو الفوز العظيم التائبون* العابدون* الحامدون* السائحون* الراكعون* الساجدون* الآمرون بالمعروف* والناهون عن المنكر* والحافظون لحدود اللّه* وبشر المؤمنين).
انظر كيف يتم هذا الاقتران الرائع بين القتال والجهاد في سبيل اللّه ومبايعة اللّه ورسوله، وبين التوبة والعبادة، والحمد، والركوع، والسجود.. وهذا يوحي بأن على المؤمن المجاهد الشجاع القوي في مواجهة الأعداء أن لا يغفل عن الله والتوجه الى الله وعبادة الله والقيام بالنوافل والمستحبات والتضرع الى الله ليبقى متصلاً بالله.
ويقول تعالى: (محمد رسول اللّه والذين معه اشداء على الكفار* رحماء بينهم* تراهم ركعاً سجداً* يبتغون فضلاً من اللّه ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود* ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل).
ترى هؤلاء القوم الذين وصفهم اللّه تعالى بأنهم اشداء على الكفار وعلى مستوى عال من الشجاعة والصلابة والقوة والبسالة في ميادين المواجهة.. كيف يرتسم على وجوههم في نفس الوقت أثر السجود، وكيف ترق قلوبهم محبة ورحمة وشفقة على المؤمنين وكيف يكون خشوعهم وتضرعهم بين يدي اللّه تعالى..
وعندما نعود الى سيرة النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم فقد كان من اعظم العاملين في سبيل الله لكن عمله وجهاده لم يشغله عن التوجه الى الله ، فهل هناك من هو أعظم جهادا وعملا وانشغالا من رسول الله(ص) ومع ذلك لم يشغله الجهاد ولا المتابعات والإهتمامات المختلف عن العبادة والتوجه نحو اللّه وهو في خضم اعماله السياسية والجهادية في مكة والمدينة، وهكذا كانت سيرة اهل بيته(ع) أيضا ومن اهتدى بهديهم واتبع نهجهم.
فقد (كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم لا يقوم ولا يجلس الا على ذكر اللّه).(وكان يتضرع عند الدعاء حتى يكاد يسقط رداؤه). و (كان يبكي، حتى يبتل مصلاه من خشية اللّه عز وجل..). و(كان صلى اللّه عليه وآله وسلم يبكي حتى يغشى عليه فقيل له : (أليس قد غفر اللّه لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر) ؟ قال : (أفلا أكون عبداً شكوراً).
وسار علي(ع) على نهج رسول الله (ص) بالرغم من كثرة جهاده وتضحياته وانجازاته وانشغالاته، فكان يفرغ بعض الوقت للعبادة وكان عندما يصلي كأنه خشبة ملقاة على الارض لا يتحرك من خشية الله، يقول ابو الدرداء عن علي (ع): رأيته في حائط بني النجار يدعو، ثم انغمر في الدعاء فلم أسمع له حساً وحركة، فقلت : غلب عليه النوم لطول السهر، اوقظه لصلاة الفجر فأتيته، فاذا هو كالخشبة الملقاة، فلم يتحرك،فقلت : إنا للّه وإنا إليه راجعون مات واللّه علي بن ابي طالب (ع).
فأتيت منزله مبادراً انعاه اليهم، فقالت فاطمة (ع) : يا أبا الدرداء، ما كان من شأنه وقصته؟ فأخبرتها الخبر فقالت : هي والله يا أبا الدرداء الخشية التي تأخذه من خشية اللّه، ثم أتوه بماء فنضحوا على وجهه فافاق، ونظر الي وانا ابكي، فقال ما بكاؤك يا أبا الدرداء ؟ فقلت : بما أراه تنزله بنفسك فقال (ع) :«كيف بك اذا رأيتني ادعى الى الحساب، وأيقن اهل الجرائم بالعذاب، واحتوشتني ملائكة غلاظ شداد وزبانية فظاظ، فوقفت بين يدي الملك الجبار واسلمتني الاحباب، ورفضني اهل الدنيا لكنت أشد رحمة بين يدي من لا تخفى عليه خافية».
وروي ان زينب (ع) ما تركت تهجدها للّه تعالى طوال دهرها حتى ليلة الحادي عشر من المحرم. فعن الإمام زين العابدين (ع) قال : (رأيتها تلك الليلة تصلي من جلوس).
وفي حديث آخر عنه (ع) : (ان عمتي مع تلك المصائب والمحن النازلة بها في طريقنا الى الشام ما تركت نوافلها الليلية).
وقالت فاطمة بنت الحسين (ع) : (واما عمتي زينب فأنها لم تزل قائمة في تلك الليلة (اي العاشر من المحرم) في محرابها تستغيث الى ربها، فما سكنت لنا عين ولا هدأت لنا رنة).
وفي تاريخنا الجهادي وتاريخ مسيرتنا ومقاومتنا نرى الكثير من أمثال هذه المشاهد الرائعة من اقتران الجهاد والمقاومة في ميادين القتال بالعبادة وتهذيب النفس والابتهال والتضرع الى الله وقيام الليل، نرى الكثير من ذلك في قادتنا وشهدلئنا ومجاهدينا..
بل إن من المميزات الأساسية التي امتاز بها حزب الله ومجاهدوه هو ارتباطهم الوثيق بالله سبحانه وتعالى وأحكامه، وأن القيم الايمانية والروحية والرسالية كانت على الدوام هي المحرك والحافز والدافع الأساسي الذي يحركهم نحو العمل والعطاء وتقديم التضحيات إلى حد الشهادة والاستشهاد في سبيل الله سبحانه.
في الاسبوع الماضي واجهنا الكثير من الأحداث التي تستحق التوقف عندها:
اولا: مسيرة العودة الكبرى التي حصلت الاسبوع الماضي في فلسطين والتصدي الاسرائيلي الوحشي والدموي لها مما ادى الى سقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى.
هذه المسيرة وما يجري اليوم في فلسطين هو محطة مهمة في مسار النضال الفلسطيني، الذي يبتكر في كل مرحلة اساليب وأشكال مقاومة جديدة، يؤكد من خلالها إصراره على التمسك بحقوقه وثوابته، لا سيما حقه في العودة الى ارضه، وانه لايمكن أن يتخلى عن هذا الحق مهما كانت الظرف ورغم كل المؤامرات التي تحاك ضده والتي باتت علنية وآخرها التصريحات التي أدلى بها ولي العهد السعودي لمجلة ذي اتلانتيك الأمريكية والتي اعترف فيها بحق اليهود بدولة قومية للشعب اليهودي على أرض أجداده، وبوجود الكثير من المصالح المشتركة مع اسرائيل إن كان ثمة سلام.. هذه التصريحات والإعترافات أعتبرتها بعض الصحف الاسرائيلية أعظم من وعد بلفور .. هذه التصريحات هي فضيحة كبرى للسعودية وخيانة عظمى للقضية الفلسطينية وتخدم المشروع الصهيوني وتسهل التطبيع ونتائجها المباشرة هو الهجوم الاسرائيلي الوحشي والدموي على الفلسطينيين وقتل الشعب الفلسطيني بدم بارد، وإطباق الحصار على غزة، والتسبب بالمزيد من المعاناة لهذا الشعب المظلوم.
تمسك الشعب الفلسطيني بحقوقه وإصراره عليها وحضوره اليوم في ساحات المواجهة ضد الاحتلال هو أبلغ وأقوى رد على مؤامرة بن سلمان وتصريحاته وعلى ما يسمى بصفقة القرن وعلى كل محاولات تصفية القضية الفلسطينية.
ثانيا: إنجاز تحرير الغوطة الشرقية من سيطرة الإرهابيين التكفيريين هو انجاز كبير جدا لسوريا ولمحور المقاومة، وهزيمة نكراء للمحور الأمريكي السعودي الذي طالما راهن على الارهابيين لتحقيق اهدافه ولكنه فشل.
اليوم استعادة الغوطة الشرقية الى أحضان سوريا خطوة متقدمة وعظيمة تؤسس لاستعادة بقية المناطق التي يسيطر عليها الإرهابيون في سوريا، كما تؤسس لهزيمة الارهاب واسياده بالكامل في كل سوريا .
ثالثا: شهدنا قبل يومين ايضا حفل اطلاق اسم الملك السعودي على أحد شوارع بيروت، ان اطلاق هذا الاسم على أحد شوارع بيروت لا يشرفها بل هو إهانة لبيروت وتاريخها وعروبتها وكرامتها ونضالها ومقاومتها للاحتلال الاسرائيلي.
الملك الذي أهانت مملكته لبنان عندما احتجزت رئيس حكومته وأجبرته على الاستقالة في ظروف مهينة، وحاولت تحريض اللبنانيين على بعضهم وضرب الاستقرار الداخلي والسلم الأهلي ونالت بذلك من كرامة اللبنانيين عموماً وأهل بيروت خصوصاً، لا يستحق هذا الشرف وهذه المكافأة، وليس جديراً بالتقدير حتى يخلد اسمه في أحد شوارع بيروت.
الملك الذي تلهث مملكته وراء التطبيع مع إسرائيل التي دمرت بيروت واحتلتها في العام 1982 وتهددها بالدمار الشامل في كل يوم، لا يليق بها أن تطلق اسمه على أحد شوارعها.
كان الأجدر ببلدية بيروت أن تحترم تاريخها ونضالها وتسمي الشارع باسماء لشهداء ومناضلين فلسطينيين أو يمنيين ممن ذهبوا ضحية العدوان السعودي المستمر على اليمن.
رابعا وأخيرا: التدخل السعودي الاماراتي السافر في الانتخابات لن يغير في المعادلات، والأموال التي ينفقونها لإبعاد اللبنانيين عمن كان صادقا معهم ستذهب هباءا ولن تنفعهم، ولن تؤثر في شعبية المقاومة، ولن تبدل من حقيقة التفاف الناس حول المقاومة التي لولاها ولولا الجيش اللبناني لما كان هناك استقرار في لبنان ولما كان هناك انتخابات في لبنان، ولتمكنت اسرائيل والارهاب التكفيري من تحقيق مشاريعهم في لبنان.
اللبنانيون يعرفون تماما ان المقاومة هي التي حمت لبنان وحررت ارضه ودافعت عنه، وانها قدمت كل ما تستطيعه من خدمات لشعبها، وما لم تقدمه حتى الآن لم يكن بسبب تقصيرها بل لانها لم يكن باستطاعتها تحقيقه، وبالتالي كل التحريض والتضليل لن يمر أمام هذا المستوى من الوعي الذي يملكه اهلنا.
والحمد لله رب العالمين
المصدر: موقع المنار