حين شارك وهو في الصفّ الرابع، أبناء مدرسته الابتدائية، في قريته، مجد الكروم، احتفالات ونشاطات «عيد الاستقلال» العاشر لدولة إسرائيل عام 1958، لم يكن ليخطر في بال الطفل الفلسطيني، عادل منّاع، التشكيك بما تعلّمه في المدرسة عن تاريخ الصهيونية، ونجاحها في إقامة دولة “إسرائيل”.
لكنّ عدم مشاركة والده له في فرحه الطفولي، كان بمثابة الخيبة، قبل أن يلحق بها قول الأب الصّاعق: «ليس يوم فرح واحتفال، يوم الاستقلال، بل كارثة ومأساة للعرب عموماً ولأهالي قريتنا خصوصاً. ليس يوم استقلال، بل يوم استحلال ما جرى لنا عام 1948».
رامي طويل/جريدة الاخبار
ثمانية وخمسون عاماً مضت على ذلك اليوم، قبل أن يصدر المؤرخ الفلسطيني، عادل مناع، كتابه «نكبة وبقاء ـ حكاية فلسطينيين ظلوا في حيفا والجليل (1948 ـ1956)» (مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـ 2016) تزامناً مع حلول الذكرى الـ 68 للنكبة.
بعد الهجوم الذي تعرّض له عام 1984 إثر نشره مقالاً في جريدة «هآرتس» يروي فيه شيئاً من سيرته الذاتية وما حدث لقريته في عام النكبة، اختار الباحث في الدراسات “الإسرائيلية” أن يبتعد عن اللهب، ويكرّس أبحاثه في «منطقة الأمان» ليغدو متخصصاً في تاريخ فلسطين في العهد العثماني.
لكنّه اليوم، وانطلاقاً من مقولة المؤرخ الماركسي إريك هوبسباوم: «المعلومات الذاتية الحميمة من الداخل تسمح بتقديم رؤية مميزة اعتماداً على مصادر ومعرفة تستعصي على باحثين آخرين» يقدّم مناع كتاباً بمثابة وثيقة ثريّة، يؤرّخ فيها لمعاناة المهزومين الذين لم يسمع صوتهم في أحداث النكبة، وصاروا «مواطنين» في “إسرائيل”، يعانون التهميش على جانبي خط الصراع.
بينما حظيت مسألة اللاجئين الفلسطينيين، الذين هجّروا من أرضهم، باهتمام الباحثين، ظلّت حكايات من لم يطردوا، أو من هجّروا ثمّ عادوا إلى بيوتهم، بعيدة عن الأضواء، ومغيبة عن معظم الدراسات المتعلقة بالنكبة.
في البحث المقسّم إلى سبعة فصول، يقترح مناع قراءة نقدية، وتحليلاً مركباً بدلاً من السرديات التعميمية والقطبية، مؤسساً لتأريخ مركّب من القاعدة إلى القمة، لا يستثني الفئات الشعبية، ولا يقتصر على وجهة نظر النخبة، محاولاً الإحاطة بكلّ الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي عايشها أبناء حيفا والجليل منذ 1948، وحتى 1956، مستنداً إلى روايات شفهية لمن عايشوا تلك الحقبة المؤلمة من تاريخ فلسطين.
يعيد مناع بدايات النكبة إلى ما هو أبعد من 1948. الثورة العربية (1936 ـ 1939) حملت للفلسطينيين، نتائج وخيمة، كان أشدها وطأة اقتراح تقسيم فلسطين للمرة الأولى في1937، لإقامة دولة صهيونية على أحد أجزائها، وإلحاق البقية بالحكم الهاشمي في الأردن. وإن أحبط ذلك المشروع، فإن الأسوأ وصل للفلسطينيين في 1947، مع بدايات الحرب الباردة بين الولايات المتحدة، والاتحاد السوفياتي. حينها، حاز اقتراح التقسيم ثلثي الأصوات في الأمم المتحدة، في وقت كان فيه العرب الفلسطينيون يتفوقون على اليهود بعدد السكان فقط، بينما تفوق اليهود عليهم في كل المجالات التي يمكنها أن تحسم أي صراع.
في الوقت الذي انبرى فيه أهالي الجليل للدفاع عن أرضهم، من دون أن يمتلكوا أبسط التجهيزات العسكرية لمواجهة الجيش “الإسرائيلي”، المزود بأحدث الأسلحة التي حصل عليها من تشيكوسلوفاكيا، قبلت الجيوش العربية (جيش الإنقاذ) بوقف إطلاق النار بعد قتال قصير، واختار الشيوعيون في «عصبة التحرر» وغيرهم من القيادات المحلية في الجليل، وقف مشاركتهم في الحرب.
عبر حكايات معروفة، وأخرى كانت حتى وقت قريب طيّ الكتمان، يوثق مناع لتطور موقف الشيوعيين في الصراع، من قبولهم قرار التقسيم مشياً على هدي قادتهم في الاتحاد السوفياتي (الداعم الرئيس لإقامة دولة “إسرائيل”)، إلى انضمامهم إلى الحزب الشيوعي “الإسرائيلي” «ماكي» ليكونوا «أول العرب الذين اختاروا الاندماج في تنظيم دولة اليهود السياسي»، وصولاً إلى قرارهم بتنظيم جبهة عربية واسعة، وتحدي سلطات الاحتلال في يوم الأرض 1976.
تاريخ طويل من الصراع والتخبط، عرف فيه الفلسطينيون أبشع صنوف القتل والتهجير والاقتلاع من بيوتهم وأرضهم. في حين تحتلّ مذبحة دير ياسين (9 نيسان/ إبريل 1948) حيزاً من الوجدان الجمعي العربي، فإنّ مناع يوثق لمجازر أخرى تزامنت معها، ضمن ما أسمته “إسرائيل” «عملية حيرام» ولم يسمع بها إلا القلّة، ومنها ما حدث في مجد الكروم، وصلحة، وعيلبون، والصفصاف، وغيرها من البلدات والقرى الفلسطينية التي يروي أهلها بعضاً من مشاهداتهم فيها، وصولاً إلى مذبحة كفر قاسم 1956، التي تعتبر ذروة السياسة القمعية “الإسرائيلية”، وقد شكلّت نقطة تحوّل في سياسة الاحتلال، من دون أن تمنعه من الاستمرار في سياسة الاستيطان، ليجد حتى أبناء القرى والبلدات، التي لم تتضرر بشكل كبير في الحرب، أنفسهم يناضلون للحفاظ على أرضهم.
في الفصل السادس، الذي حمل عنوان «صراع البقاء بين السياسة وجهاز القضاء»، يعرض منّاع تفاصيل إقامة دولة “إسرائيل” كدولة لليهود، لا دولة للمواطنين الذين عاشوا فيها منذ 1948، موثقاً لسياسة الجيش والمؤسسات “الإسرائيلية” في التقليص من عدد العرب في “إسرائيل” قدر المستطاع.
قبل أن يروي مجموعة حكايات يصفها بالـ «الكافكائية» لفلسطينيين من يافا أصروا على البقاء متحدين كلّ ظروف القهر التي يتعرضون لها.
مدعوماً بكمّ كبير من الوثائق والمراجع، المترافقة مع شهادات حيّة، وجزء من سيرة ذاتية، أنجز عادل مناع كتابه كوثيقة على درجة كبيرة من الأهمية لإعادة قراءة تاريخ النكبة الفلسطينية، والوقوف على تفاصيل نضال سكّان حيفا والجليل، مؤسساً لدراسة نقدية تطال كلّ تفاصيل النضال الفلسطيني بغية الوصول إلى صورة واضحة، شبه متكاملة، يمكن أن تكون دليلاً لأجيال قادمة مستمرة بالنضال لاسترجاع حقوقها، فقراءة التاريخ بصيغة نقدية تحليلية هي بلا شك بوابة لفهم الحاضر، ولبنة أساسية في العمل للمستقبل.
المصدر: جريدة الاخبار