تناولت بعض وسائل الإعلام بظرافة، الجلسة الأربعين لإنتخاب رئيس الجمهورية في الثاني من حزيران / يونيو، وأطلقت عليها تسمية “جنَّاز الأربعين” لكرسي الرئاسة، وسها عن بال الكثيرين، أن بعض القوى تُحيي ذكرى “الأسبوع”، عن آخر جولة انتخاباتٍ بلدية، رُفِعت فيها صناديق الإقتراع في محافظة الشمال، عن نتائج نكَّست رايات البعض، ورفعت من منسوب التصريحات الطاووسية للبعض الآخر، في ما لا تحتمله صناديق بلدية، فقرَّر الوزير السابق أشرف ريفي أن طرابلس قالت “لا” لسليمان فرنجية كمرشَّح للرئاسة، وألحقه منسق الأمانة العامة لـ 14 آذار فارس سعيد ببيانٍ أن “اللاء” الطرابلسية جاءت مزدوجة للعماد ميشال عون والنائب فرنجية!
وطالما أن بلدية طرابلس برأي ريفي وسعيد تُقرِّر مصير كرسي الرئاسة، فإن ذهنية “المُكابرة” لدى 14 آذار تبقى “مطرحك يا واقف”، علماً بأن قراءة الترشيحات البلدية والنتائج على امتداد لبنان، تدعو هذا الفريق لإحياء صلاة الغائب، والإمتناع عن إدارة الظهر لواقع الأرض، والإبقاء على حجم الكرسي البلدي ضمن نطاق المدينة والبلدة والقرية طالما أن الصلاحيات محصورة بكلمة إنماء.
كلمة “إنماء” ردَّدها المرشَّحون للإنتخابات البلدية مئات آلاف المرات، ولو أن بعض القيادات، اعتبرت أن المعركة في مدينة أو بلدة ما، هي سياسية بامتياز في تنافسٍ مشروع لإثبات الوجود، ويُبنى عليها للإنتخابات الرئاسية والنيابية، ولا فرق إذا كانت البيضة قبل الدجاجة أو العكس، لكن ما ميَّز انتخابات 2016، أنها شهِدت حشداً في الترشيحات وتحشيداً جماهيرياً غير مسبوق، وجاءت النتائج الأولية، نِسِب عالية من الإقبال في مناطق، وإحجام في مناطق أخرى، تبعاً للمزاج الشعبي ومدى الثقة بما يُمكن أن تُنجزه المجالس المُنتَخَبة من تغيير في حياة الشعب اللبناني المقهور.
وبناء عليه، وبعيداً عن أي تحليل سياسي أو تموضع حزبي، على المعنيين من القادة والزعامات قراءة مواقعهم على الأرض، وقبل الحديث عن الرئاسة والنيابة، لنَبقَ في البلديات، حيث عليهم تحليل نسبة الإقبال والإِحجام، قبل الحديث عن الفوز والأَحجام، ولا يُمكن المُبالغة في الإحتفال بالنصر بالنسب المتواضعة للمقترعين في بعض المناطق، لأن حجم المُشاركة بصرف النظر عن النتائج، هو المؤشر لثقة الناس، ولا مجال للمقارنة بين ما حصل من إقبال في بعلبك / الهرمل والجنوب والنبطية على سبيل المثال، مع ما حصل في بيروت وطرابلس.
وإذا كان التنافس الحزبي مع العائلي سِمَة كافة المناطق، فإن بعض الأحزاب انتصرت ترشيحاً وتنظيماً وإشرافاً ونتائجاً، وانتصرت أيضاً عبر رعايتها للترشيحات العائلية، وتركت المجال للقرار العائلي حيث تعذَّر التوافق، خاصة أن حزباً كبيراً كحزب الله خاض معاركاً ضمن بيئة شعبية حاضنة، على رقعة جغرافية وديموغرافية واسعة، والحزبيون هم من نفس البيئة الوطنية والسياسية لأبناء العائلات، وهنا مكمن التحدِّي في الإنجاز والقدرة على رعاية عملية إنتخابية كبيرة، في الوقت الذي خاضت فيه بعض القيادات معاركها على مستوى بلدات أو قرى بعدد أصابع اليدين أو اليد الواحدة.
المُلفت في بعض البلدات الكبرى النائية، أن الأحزاب كانت غائبة عنها وعن معاناتها اليومية، ثم فجأة امتلأت ساحاتها بأعلام حزبية متنوِّعة ومتنافرة، مما انعكس سلباً على المزاج الشعبي، وبالتالي في صناديق الإقتراع، لأن اللبنانيين على مختلف مشاربهم يبحثون عن حاضنة إجتماعية دائمة وليست موسميَّة، ترعى حقوقهم وحاجاتهم وتكون بديلة عن مجلس نواب ممدِّد لنفسه، وعن حكومة أشبه بمكاتب تصريف أعمال، وقد تجلَّى بحث اللبنانيين عن هذه الحاضنة في أكثر من منطقة، فكانت الحاضنة الحزبية هي الفائزة الأولى في مناطق حزب الله وأمل، والحاضنة العائلية كما في مناطق النائب ميشال المرّ والنائب سليمان فرنجية، وفازت أحزاب بشكلٍ جزئي، بينما انهارت بُنى أحزاب غائبة عن جماهيرها، وحصل ما كان بالحسبان لتيار المستقبل الذي انكفأ في البقاع وعكار، وانتكس في بيروت، لكن ما لم يكن في الحسبان هو انهياره رغم التحالفات في طرابلس.
بدا الناخب الطرابلسي وكأنه يعكس تشتُّت 14 آذار، وأنهاها بالضربة القاضية عبر تطيير تمثيل الأقليات، وليس مستهجناً استهداف العلويين بالنظر الى ما حصل بين باب التبانة وجبل محسن، لكن ضرب التمثيل المسيحي البلدي في طرابلس يعني أن الشارع الطرابلسي قد ارتحل عن النسيج اللبناني أولاً، وثانياً، أن مسيحيي 14 آذار باتوا أمام استحقاق الإرتحال ولم تعُد لديهم ذريعة البقاء ضمن فريق لا يمتلك مشروعاً ولا يؤمِّن تحالفاً انتخابياً يحفظ ماء الوجه على الأقل مع بقايا جماهير الساحات ومهرجانات ثورة الأرز.
وفي المحصلة النهائية على مستوى كل لبنان أفرزت الصناديق ما يلي:
أ) إنتصار أحزاب حاضرة بين جماهيرها وناخبيها، قبل الإنتخابات وخلالها وبعدها، فجاءت المجالس البلدية سلطة محلية مدعومة من هذه الأحزاب للعمل الإنمائي البحت وتصدَّر حزب الله قائمة هذه الأحزاب.
ب) إرتباك أحزاب، ترشيحاً وتنظيماً واقتراعاً الى حدّ التنافس بين أبناء الحزب الواحد لإعتبارات عائلية أو شخصية، عكست عدم الإلتزام الحزبي ولامست عدم الإنضباط وانعكس ذلك سلباً على النتائج، وعلى بُنية هذه الأحزاب.
ج) إنهيار أحزاب تتواجد موسمياً بين الناس، ولم تُنقذها حتى الأموال المهدورة في شراء الأصوات، وهذه الأحزاب ستغدو أضعف من أن تدَّعي صحة التمثيل، وباتت على المستوى الوطني أعجز من تكون “من فوق” في أية عملية سياسية أو طاولة حوار، وهذه الأحزاب قرأت في النتائج البلدية ما ينتظرها في الإنتخابات النيابية كائناً ما كان قانون الإنتخاب.
د) تراجع بعض الشرائح الشعبية عن الفكر الحزبي التنظيمي والمؤسساتي لصالح الإنتماء العائلي أو العشائري دون برامج إنتخابية أو خطط عمل، مما يُعتبر أسوأ ما أنتجته إنتخابات 2016، لأن المجالس البلدية العائلية أو المختلطة بين الحزبي والعائلي لن تتمكن من تحقيق إنجازات كبرى.، ما لم تواكبها طيلة ولايتها رعاية مؤسساتية حزبية، وتكون الداعم لها لدى السلطة المركزية، بغياب تطبيق اللامركزية الإدارية لأجل غير مسمَّى.
هـ) بروز قيادات محلية على حساب قيادات أو مرجعيات كبرى، لكنها تبقى ضمن إطار بيئتها، ولا يمكنها الإرتقاء الى مستوى العمل الوطني، ومن الأفضل لها عدم البناء على كرسي بلدي للوصول الى كرسي آخر، خاصة إذا كانت حيثيتها طارئة ومحدودة ولا صفة تمثيلية لها خارج إطار ما كانت عليه قبل الإنتخابات، والنائب الفائز ببلدية أو أكثر، ليس بالضرورة أنه سيحتفظ بالكرسي النيابي مستقبلاً، والنائب الذي فشِل بلدياً في بلدته، ليس بإمكانه اعتبار نفسه مرشحاً طبيعياً لولاية نيابية جديدة.
ختاماً، فإن مَن يعتقد أن صناديق الإنتخابات البلدية لم تكن الى حدٍّ كبير استفتاء شعبياً لنبض الشارع اللبناني والحجم الجماهيري للأحزاب، فعليه إعادة حساباته، ومن فاز على مستوى بلدية لا يُمكنه الإسترسال بالشروط على من فاز على مستوى الوطن، كما كان الوضع قبل الإنتخابات، ومن خسِر في كراسي البلديات عليه غضّ النظر عن الكرسي الأعلى، لأن من ليس قادراً على احتضان شارعه ليس جديراً بإحتضان وطن…
المصدر: موقع المنار