مخطىء من يعتقد أن هناك قانوناً قادراً على تنظيم وتنظيف القطاع الإعلامي في أيّ بلدٍ كان، بعد أن غدا كل شخصٍ على مواقع التواصل إعلامياً، وقادراً أن يكون ناقل خبرٍ بالصوت والصورة والتعليق، وإبداء الرأي الشخصي والتفاعل عبر إنطلاق التغريدات المؤيدة والمعارضة، بحيث بدت بعض مؤسسات الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئية، وكأنها تتحرَّك بردود فعل أو هي “صدى الشوارع”، لدرجة أنها تستند الى تغريدات المواطن العادي، الذي بات “إعلامياً” يُمارس المهنة ولو دون إنتماء لها لا وظيفياً ولا مادياً.

تخرُج بعض المدوِّنات على مواقع التواصل عن الأدبيات المهنية بمختلف وجوهها، لكن تنظيم الإعلام الإلكتروني أصعب من الوسائل التي سبقته، ولا مجال لتنظيم وسائل الإعلام المؤسساتية والإبقاء على “الإعلاميين الفاتحين على حسابهم” دون تنظيم، خاصة أن التضامن مع مدوِّنٍ ما في حال استدعائه قضائياً لمساءلته، بلغ حدود التمترس لأجله واستخدام كافة أنواع “الأسلحة” تضامناً معه، أو تنديداً به والتحريض على إدانته ومعاقبته.

الإعلام ثقافة، والمؤسسة الإعلامية مدرسة أدبيات قبل أن تكون وسيلة نقل خبر، لكن بمقدار ما تنحو بعض الوسائل الى الإستثمار التجاري الإعلاني- وهذا حق طبيعي- بمقدار ما تكمن الخطورة حدود الجشع المتهوِّر، ليس في التجارة الإعلانية بل في الإستثمار الإعلامي، الذي كان مادة لاهبة في إيقاد نار الصراعات ضمن ما يُسمَّى “الربيع العربي”، لدرجة أن وسائل إعلام بريطانية وصفت إحدى الفضائيات الخليجية عام 2012 بأنها “صانعة الحروب في الشرق الأوسط”.

والإعلام المُلتزٍم بقضية عادلة، له مُرِيدوه الملتزمون بالقضية، لكن الوسيلة الإعلامية الراقية، هي التي يُجمع مُريدوها وخصومها على أنها مدرسة أدبيات، سواء في نقل الخبر اليقين أو في التحليل الموضوعي، وحتى في ملامسة عقول وقلوب الخصوم بفضل أدبياتها البعيدة عن التجريح بمن يخالفها الرأي، مع صلابة في المواقف البعيدة عن المهادنة مع كل من تعتبره عدواً للوطن وللقضية العادلة التي تحمل هذه الوسيلة رسالتها.

وللغوص في تناول موضوع الإلتزام، لست بصدد أخذ “المنار” مثالاً لأني أكتب هذا الموضوع على موقعها الكريم، بل لأتناول إستضافة كلية الإعلام في جامعة دمشق للأستاذ ابراهيم فرحات، المدير العام للمجموعة اللبنانية للإعلام، لإلقاء محاضرة يوم أمس الأربعاء، وتحوَّل اللقاء الى ورشة نقاش مع طلاب الكلية، بحضور رئيس جامعة دمشق، وعميد الكلية وعدد من أساتذة الإختصاص، وهذه الإستضافة حصلت، ضمن سياق برنامج مُستدام لدعوة إعلاميين ذوي كفاءات أكاديمية وتجارب إعلامية.

ما ميَّز هذا اللقاء، أن “المنار” الطالعة من مُعاناة مواكبة الأحداث الكبرى والقضايا المصيرية، شهِدت حرباً عليها من العدو الإسرائيلي، وحرباً أكثر شراسة من بعض مؤسسات الأقمار الصناعية ومنعها من البث الفضائي، نتيجة نصرتها للقضية الفلسطينية ومواجهتها للإرهاب في حربه الإقليمية وخاصة على سوريا، بنفس العزم الذي انتهجته خلف خطوط المواجهة التي خاضتها المقاومة في لبنان.

وإذا كان طلاب كلية الإعلام في جامعة دمشق، قد إطلعوا على دور الإعلام في التثقيف المواكِب للأحداث الكبرى، وكيفية جعله مادة أساسية في معركة المواجهة، ذهب الأستاذ فرحات في محاضرته الى ما هو مطلوبٌ من الوسيلة الإعلامية المُلتزمة، سواء في زمن الحرب أو في زمن السلم، وقال “بضرورة معرفة كيفية ادارة المجتمعات من خلال وسائل الإعلام”.

نعم، الإعلام اليوم، هو الذي يُدير المجتمعات، والإعلام يُشعِل حرباً أو يُرسي سلاماً، ومن هنا تأتي مسؤولية الوسيلة الإعلامية على المستوى الوطني، سواء كانت ملتزمة بقضية وطنية، أو مجرد وسيلة لنقل الأخبار، حيث تبقى المرجعية الفُضلى لكل وسيلة هي إدارتها الذاتية، الخاضعة لمدرسة أدبيات تُرسي السلام في المجتمع رغم الخلافات والإختلافات، وتقبل الآخر وتُقبِل عليه تحت السقف الوطني والقومي والإنساني، ومشكلتنا في لبنان، ليست في عدم وجود إدارات ذاتية ضابطة للبرامج على أنواعها، بل في عدم وجود مدرسة أدبيات وإلتزام وطني عند بعض الوسائل الإعلامية، ونحن لسنا ضدّ حريَّة الإعلام ولكن، بين الحريَّة و”الفلتان” فارقٌ شاسع، ومتى غَدَت بعض الوسائل الإعلامية خناجرَ في خاصرة الوطن، فهناك دستور وقوانين نافذة للضبط، وهناك قضاء يُفترض أن نؤمن بدوره، ليس لتجريم وسائل الإعلام بل لمنعها من ارتكاب جرائم بحق الشعب والوطن…

المصدر: موقع المنار