قد تكون الإحاطة ضمن مقالة، بأية إطلالة إعلامية لقائد المقاومة السيد حسن نصرالله، مسألة صعبة لسببين: أولاً لأن سماحته لا يُطلق كلمة تحتمل التأويل والإجتهاد والتحليل، بل يُرسلها واضحة صريحة للقاصي والداني من الملايين الذين يُتابعونه بشغف، والخصم منهم قبل الحليف والعدو قبل الصديق، وثانياً لأن الإطلالة بحدّ ذاتها جولة بانورامية داخلية وإقليمية ودولية نتيجة إنعكاس الأحداث المتسارعة على لبنان والجوار.
لذلك يحلو في عيد المقاومة والتحرير، أن نختار قُطُوفاً من ثمار القطاف، تُلامس ذاتنا مباشرة كمواطنين لبنانيين عاديين، خاصة أن هذه الذكرى المباركة، تحمل إلينا عبر إطلالة السيِّد كل عام، شيئاً جديداً ضمن منهاجٍ واضح يرسم المستقبل للأجيال الحاضرة والآتية، من خلال عرض الماضي والحاضر واستنباط العبر للمستقبل، ونتوقَّف عند ثلاث نقاط: ثقافة المقاومة، الحاضنة الحزبية للبيئة الشعبية، وبناء الدولة.
1) ثقافة المقاومة:
في العام 2000، قلَّة من اللبنانيين صدَّقوا، أن بلداً عربياً صغيراً كلبنان، قادرٌ على فعل ما عجِزت عنه الدول العربية مجتمعة على مدى أكثر من نصف قرن في مواجهة العدوان، وكان من الطبيعي أن ينقسم اللبنانيون يومذاك بين مؤيِّدٍ لحرب التحرير ومؤمنٍ بالقدرات، وبين لا مبالٍ مشكِّكٍ بهذه القدرات، وبين معارضٍ لهذه المغامرة و”فِعلة المُقامرة”، لأن لا كُتُب التربية الوطنية ربَّت الأجيال اللبنانية على مفهوم السيادة الكاملة والإستقلال الناجز، ولا كُتُب التاريخ جاءت على ذكر ملاحم وطنية مماثلة، ولا الثقافة الوطنية للشعب اللبناني، كانت ضمن إطار، أن حبة تراب في الجنوب أو البقاع الغربي كرامته الشخصية مرتبطة بتحريرها حتى ولو كان من أية منطقة أخرى من لبنان، وترافق ذلك، مع مواقف مُخزية لبعض القوى السياسية بلغت أحياناً حدود العمالة للمحتلّ، لكن الشعب اللبناني عام 2006، الذي بات أكثر إيماناً بمقاومته وجيشه وبنفسه أيضاً، نتيجة انتصار عام 2000، أبدى كل دعمٍ ومساندة واحتضان لأهله الذين نزحوا من أرض المعارك، ومنذ ذلك التاريخ بدأت ثقافة المقاومة في وجدان اللبنانيين وعقولهم تُغني عن كُتُب التربية والتاريخ والقصائد الوطنية الفضفاضة.
وفي هذه الجزئية، نقتطف ما ورد في كلمة سماحته: “إن الأمَّة الحيَّة هي التي تتمسك بتاريخها وانجازاتها وانتصاراتها وشهدائها وتضحيات المُضَحِّين، وتفتخر بالانجازات وتربِّي الاجيال الآتية على هذه الثقافة وهذه المعرفة، وهذه التضحيات والانتصارات مدرسة عظيمة جداً”.
2) الحاضنة الحزبية للبيئة الشعبية
لم يسبق لحزبٍ لبناني أن بسَّط السياسة وقارب معناها في أدائه على أنها “إدارة الشأن العام ورعاية شؤون الناس” كما فعل حزب الله، والثنائية الشيعية التي يُعيِّر بها بعض الآحاديين في السلطة الحزب وحركة أمل، هي ثناء على هذه الثنائية، وكان من واجب طرفي المقاومة رعاية واحتضان بيئتهما الحاضنة خلال الإنتخابات البلدية الحالية، من منطلق الوساطة بين العائلات بهدف التقريب بينها، خاصة أن الطموحات للعمل البلدي مسألة مشروعة ومحمودة، وسواء كانت اللوائح عائلية – حزبية ضمن تحالف “الوفاء والتنمية” التي حقَّقت النتائج المُبهرة، أو كانت من العائلات التي تنتمي بطبيعة الحال لبيئة المقاومة وهي حاضنة هذه المقاومة، فإن الدور المطلوب من المجالس البلدية المُنتخبة هو بحت إنمائي، وقد عبَّر نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم عن تطلعات الحزب في هذا المجال عشية فرز أصوات بلديات البقاع وبعلبك الهرمل بالقول:”لن تكون المجالس البلدية الجديدة مجموعات حزبية، بل جماعة محصورٌ عملها بالعمل الإنمائي فقط ونحن خلفها ندعمها ونُساندها من أجل أداء دورها لخدمة الناس”.
وتطرَّق سماحة السيِّد في كلمته الى هذا الموضوع وقال في احتفال ذكرى المقاومة والتحرير: نشكر أهلنا..، وإحساسهم بالمسؤولية، وأذكِّر كل الفائزين، أنكم تتحملون مسؤولية امام الله، وعلى المجالس البلدية المُنتخبة مسؤولية خدمة الناس والمحاسبة.
وبعد انتهاء كلمة السيد نصرالله بساعتين تقريباً، كانت هناك مُناظرة على محطة “إم تي في” بين رؤساء اللوائح الثلاث لمدينة طرابلس، وقال أحدهم أن من واجب البلديات، الرعاية الإجتماعية للناس، وأعطى مثالاً عن بلدية رحبة الشمالية، التي أصدرت بطاقات تأمين صحي لأبناء البلدة الى جانب تأمين الكهرباء 24/24، فأجابه مرشح لائحة أخرى أن رعاية الشؤون الإجتماعية لا تدخل ضمن نطاق عمل البلديات وتتخطى قدراتها، فأجابه المرشح الأول: “هذه بلديات مناطق حزب الله، هل هي على خطأ في رعاية شؤون الناس وبلدية طرابلس على حق”؟!
3) بناء الدولة
إنطلاقاً من رفض قيادة حزب الله لقانون الستين، وتأييدها الدائم للنظام النسبي الذي يُعطي الحقوق للجميع، فإن حزب الله من منطلق حرصه على هذه الحقوق خاصة للأقليات، يتمسَّك تلقائياً وذاتياً بتطبيق النسبية، وهذا ما حصل في انتخابات البلديات عام 2010 وتمّ تطبيقه في الإنتخابات الحالية، من منطلق احترام العُرف وعدم إشعار الأقليات بالغُبن، وبلدية مشغرة خير دليل على توجيهات قيادة الحزب في هذا الشأن والأمثلة كثيرة في البلدات المختلطة التي حرِص فيها حزب الله على إحقاق الحق.
وفي مقولة “العبور الى الدولة”، على الفريق الذي يردِّد هذه العبارة توضيح أية دولة يرغب العبور بالناس إليها، وأن يُمارس فعل العبور بإرادة الشعب، وكفى ترداد معزوفة سلاح حزب الله، وليقف الجميع بتأمل عند نتائج انتخابات عرسال التي طلب سماحة السيد قراءتها بتمعُّن، وأين سلاح حزب الله من خيارات أبناء عرسال الذين نفضوا عنهم كل غبار الإتهامات، وقالوا “نعم” لمن يُريد عرسال ضمن حضن الدولة اللبنانية، و”لا” مدوِّية لمن جعلها مرتعاً للإرهاب وأساء لسمعة أهلها، عرسال هذه، لطالما كان حزب لله حريصاً على كرامتها وأمنها في الوقت الذي كان البعض يستخدمها ممراتٍ لعبور السيارات والإنتحاريين وتأجيج الفتن المذهبية رغماً عن إرادة أهلها.
فلتكن عرسال مثالاً لممر العبور الى الدولة، لأنها كانت نموذجاً عن الإرادة الحرَّة لشريحة كريمة من اللبنانيين، ترغب التعايش مع محيطها والإستقرار ضمن الإطار الوطني مع سائر اللبنانيين، وكفى إنزلاقاً لبعض الزعامات خلف الرهانات الإقليمية، وكفاهم خلق بؤر تقسيمية للناس، وليقرأوا نتائج الإنتخابات ليس فقط في عرسال، بل على مستوى المحافظات، من بيروت الى البقاع وبعلبك الهرمل، وجبل لبنان والجنوب، وليقرأوا بعد أيام نتائج الشمال، وليعبروا الى الدولة وفق إرادة اللبنانيين بدولةٍ كريمة عادلة نظيفة، وكفى آحادية في “الزعامة الخالدة” وتفصيل أثواب الدولة على قياسهم، لأن الصناديق الإنتخابية البلدية قالت كلمة الشعب، والكلمة التالية في الإنتخابات النيابية، وليحكُم الشعب اللبناني، لأنه وحده الحَكَم…