في خطاب التنحِّي والوداع وتسليم صلاحياته الى الحكومة والبرلمان، حاول رئيس إقليم كردستان السابق مسعود البرزاني، التغطية على أخطر مغامرة لم يسبقه إليها أحدٌ خلال قرنٍ من الزمان، واعتبر أن استعادة الحكومة العراقية مدينة كركوك في 16 تشرين الأول / أكتوبر الماضي خيانة قومية عظمى ارتكبتها بعض القوات الكردية بانسحابها من المدينة، وتناسى البرزاني أنه عندما هاجم كركوك وسيطر عليها عام 2014 واعتبرها جزءاً من “إقليمه” هي أكبر من خيانة، بل هي فعل تحدٍّ حجمه أكبر من البرزاني ومغامراته، لأن العالم كان يتحضَّر لذكرى مئوية سايكس – بيكو عام 2016، وحَفِلت وكالات الأنباء والصحف والمواقع الإلكترونية ما بين عامي 2014 و 2016 برغبة “الأكراد” تعديل هذه الإتفاقية، وأنه آن أوان فرض هذا التعديل لإقام “دولتهم”!
الخطير في خطوة البرزاني يومذاك، أن احتلاله مدينة كركوك، أيقظ وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس من غفوتها، وصرَّحت دون أية صفة، أن أميركا هي ضدّ إتفاقية سايكس – بيكو منذ نشأتها، وأنه يجب إعادة ترسيم كيانات الشرق الأوسط، وأميركا أعدَّت خرائطَ منذ نصف قرن لكردستان الكبرى، وإذا تعذَّر الأمر، فلتكن كردستان الصغرى الحالية، طالما أن خرائط تمزيق الكيانات كانت في أوجّ تنفيذها سواء في سوريا أو العراق، وارتضى البرزاني أن يكون “المتعهِّد” الأول للمباشرة بإعادة الترسيم.
وإذا كان صمود سوريا والعراق بفضل محور المقاومة، قد بدَّد أحلام أميركا بالتمزيق و “لفلفت” خرائطها بالوقت الحاضر، لم يبقَ لمسعود البرزاني المُتظلِّم من سايكس – بيكو من داعمٍ لمشروعه على الساحتين الدولية والإقليمية، سوى الكيان الصهيوني الذي حلَّ لعنة على المنطقة بموجب وعد بلفور، ورأى بمغامرة البرزاني للإنفصال عن العراق الفرصة الذهبية لبدء نشأة “الإسرائيليات”، والتاريخ سوف يحفظ لسوريا والعراق ومعهما إيران وروسيا وكل محور المقاومة، الإنجاز العظيم في صدّ أقسى عدوان همجي على الشرق الأوسط بتواطؤ أكثر من ثمانين دولة، وتكلَّل الإنتصار باستعادة كركوك وعودتها الى حضن العراق، وسقط البرزاني وعاد الى صفوف “البيشمركة” مختتماً المُغامرة المُقامرة بكلمة: لا أحد مع الأكراد سوى جبال كردستان”!
وإذا كانت كلمة بيشمركة الكردية تعني: “الموت من أجل الوطن”، فأي وطنٍ سيموت من أجله الأكراد و”انتحر” البرزاني من أجله، كردستان الكبرى أم الصغرى؟ أم أية منطقة يتواجد فيها أكراد، ولو على حساب دول مستقلة؟
ونورِد في هذا السياق محاولات سابقة للإنفصال، جميعها كان الأكراد فيها مدفوعين أو مدعومين من آخرين ولم تدُم لهم دولة، من “مملكة كردستان” بمدينة السليمانية عام 1922 والتي دامت سنتين، الى “كردستان الحمراء” في إقليم ناغورنو كارابخ التي دامت من 1923 إلى 1929، الى “جمهورية آرارات” عام 1930 والتي سقطت سريعاً بعد مواجهات مع الأتراك، الى “جمهورية مهاباد” عام 1946 خلال اجتياح الإتحاد السوفياتي لشمال إيران وعمَّرت هذه الجمهورية أحد عشر شهراً، وكانت آخر المحاولات عبر إعلان جمهورية “لاجين” عام 1992 في المنطقة الواقعة بين أذربيجان وأرمينيا، وأيضاَ لم تُكتب لهذه الجمهورية الحياة ولو لأيام معدودات، وكل هذه الكيانات كانت تنتهي سريعاً نتيجة خلافات قبلية وعشائرية وسياسية في الداخل الكردي، قبل أي تأثير خارجي.
من هنا يتَّضح لنا حجم الخطأ / الخطيئة الذي ارتكبه مسعود البرزاني بحق الأكراد، الذين يتمتعون على الأقل بحكم ذاتي في إقليم كردستان، برلمان محلي وحكومة محلية، لكن البرزاني الذي جعل من هذا الإقليم مزرعة عائلية تتعاطى بيع نفط العراق بالتعاون مع مافيات تركية، شاء أن يلعب دوراً كبيراً، ويكون سكِّيناً لتمزيق الخرائط، وكان من حيث يدري أو لا يدري شريكاً لداعش والنصرة وباقي المنظمات الإرهابية في تقويض كيانات سياسية تمهيداً لنشوء الإسرائيليات بدءاً من “دولة كردستان”، التي أجرى الإستفتاء من أجلها مؤخراً رغم التحذيرات الدولية والإقليمية، لكن هذه الدولة سقطت من الداخل الكردي وسقط معها مسعود البرزاني قبل أن تدخل القوات العراقية لإسترداد كركوك، لأن الداخل الكردي المُعارض لسياسات البرزاني وعائلته، اشترط طاولة حوار قبل البحث بقيام دولة، ولأن شريحة واسعة من الأكراد لو رُفعت عنها بندقية البيشمركة ستُعلن معارضتها الإنفصال عن العراق، ومشهدية بسيطة خلال تشييع الرئيس العراقي الراحل جلال الطالباني يعتبرها البعض جزئية، لكنها تختصر خلافات الأكراد الداخلية، وكأن الخصم / الشريك جلال الطالباني قضى من نعشه على مسعود البرزاني خلال تشييعه في السادس من تشرين الأول / أكتوبر الماضي:
كل مصاريف الطبابة في الخارج، وكل ترتيبات التكريم لمأتم الرئيس السابق جلال الطالباني، ونقل جثمانه بالطائرة الى السليمانية مسقط رأسه مع كل التشريفات اللائقة، تولَّتها الحكومة العراقية، وفور إنزال النعش من الطائرة، استُبدِل العلم العراقي بعلم إقليم كردستان، مما أثار استياء الشخصيات الرسمية العراقية، سيما وأن الرئيس العراقي / الكردي فؤاد معصوم متواجد في المأتم بصفته رئيس كل العراق وهذا إهانة له وتقزيم لحجم الرئيس الراحل الذي كان أول رئيس كردي للعراق.
على هامش ذلك المأتم، استشعر غالبية زعماء المعارضة الكردية أنهم يُضحُّون بمنصب رئاسة الجمهورية العراقية، وبنعمة ما هم عليه من “حكم ذاتي” كان كما الحلم، ويعرِّضون أنفسهم لطوقٍ من الحصار من أجل إنشاء دولة عنصرية غير قابلة للحياة، يسير بها البرزاني ، وتأكدت هذه المخاوف حتى على إمكانية بقاء “الحكم الذاتي” بعد طرح إلغاء منصب “رئيس الإقليم” وتوزيع صلاحياته بين البرلمان والحكومة والقضاء، وإذا سار الأكراد في هذا الخيار، فإن إقليم كردستان الذي كان “مشروع دولة” في أحلام البرزاني، سيتحوَّل الى نوع من اللامركزية الإدارية، وينتهي حتى حلم “الحكم الذاتي” الذي كان قائماً وينصّ عليه الدستور العراقي، نتيجة خلافات الأكراد على الزعامة…
المصدر: موقع المنار