أمين أبوراشد
وفاة الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني منذ أيام، ليست حدثاً عراقياً ولا حتى كردياً، لأن الرجل الذي كان الشريك الأساسي في ثنائية قيادة إقليم كردستان منذ العام 1992، بصفته زعيم حزب الإتحاد الوطني الكردستاني، مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني، خَسِر خصوصية الزعامة الكردية عندما ارتضى أن يكون رئيساً للعراق، وأقعده المرض عام 2014 وبات البرزاني الحاكم بأمره في الإقليم.
لكن المُلفِت في وفاة الطالباني، أن التوقيت بدا مُبرمَجاً من القَدَر، والرجل الذي لم يكُن ضد فكرة الإستفتاء الذي حصل، كان يتمناه ورقة ضغطٍ للشراكة الأكبر مع بغداد، وإعطاء الأكراد حصصاً إقتصادية من الموازنة الإتحادية تُعزِّز حكمهم الذاتي، أما وقد أفُل نجمه من سماء الأقليم منذ سنوات، فإن إقليم كردستان بات إمارة عائلية لعشيرة البرزاني، التي ستواجه في إعلان الدولة صعوبات مع أحزاب المعارضة الكردية، لا تقلّ عن تلك التي برزت على المستويين الإقليمي والدولي.
داخلياً، غالبية الأحزاب الكردية المُعارضة، أعلنت قبل الإستفتاء وبعده، أن الإنفصال عن العراق وإعلان “دولة كردستان”، مسألة يلزمها طاولة حوار لمناقشة أسُس قيام هذه الدولة، ولو جرت انتخابات برلمانية ورئاسية قريباً في الإقليم، فإن تتويج مسعود البرزاني رئيساً مع غالبية برلمانية لا يعني أن المعارضة هي خارج المُعادلة، لأن الفساد الذي يُعشِّش في الدوائر الرسمية بإشراف نجل البرزاني وصهره لن تسمح المعارضة باستمراره، ولو أن مافيا بيع النفط المُهرَّب الى تركيا سوف تستمر في عملها، خاصة إذا قررت تركيا رسمياً عدم السماح بتمرير نفط الإقليم عبر أراضيها، وبالتالي ستُصبح كردستان دولة مارقة تعتمد على التهريب، وعلى عداوة واضحة مع الطوق الذي يُحيطها من العراق الى سوريا الى تركيا وانتهاء بإيران، وليس من مصلحة الشعب الكردي المُنضوي تحت لواء المعارضة، أن تكون الدولة الموعودة كياناً هشَّاً، ومجتمعاً عنصرياً مرفوضاً من كافة جيرانه، إذا لم يمتلك مقومات دولة، إضافة الى أنه سوف يستجلب المتاعب المجانية للأكراد المنتشرين في دول الجوار مع شركائهم في الأوطان التي يُقيمون فيها.
إقليمياً، وعلى هامش زيارته لإيران، سمِع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من مرشد الثورة الإيرانية السيد علي الخامنئي، كلاماً مقتضباً ووافياً: كردستان هي “إسرائيل” الثانية التي أرادت أميركا قيامها في المنطقة، وكلام المرشد موثَّق بالخرائط والخطط التي أعدَّتها أميركا منذ نحو نصف قرن، وجاءت كردستان على رأس لائحة “الإسرائيليات” المُقترحة، لكن الصمود المُذهِل للجيش السوري والحلفاء، إضافة الى الإنجازات التي حقَّقها الجيش العراقي بمشاركة الحشد الشعبي والعشائر بمواجهة الإرهاب، فرمَل الإندفاعة الأميركية عندما نزِلت روسيا ومعها إيران الى ميدان الحسم، لأنهما معنيتان بأمنهما القومي ولا مجال معهما للمساومة في مسائل وجودية على حدودهما، والدور الأميركي في المنطقة بات يقتصر على العرقلة أكثر منه مبادرة الفعل بعد انتصارات محور المقاومة، ولأن أميركا منذ استخرجت النفط الأحفوري وباتت تمتلك عناصر طاقة بديلة، لم يعُد الشرق الأوسط أولوية إستراتيجية لديها، وانتقلت الى بحر الصين حيث قلقها المصيري، خاصة أنها عاجزة عن كبح جماح التهوُّر لدى زعيم كوريا الشمالية الذي يهدِّدها في عقر دارها.
دولياً، يحاول البعض تشبيه إستفتاء كردستان بإستفتاء كاتالونيا للإنفصال عن إسبانيا، والواقع مُغاير تماماً، لأن كاتالونيا تُعتبر أغنى الأقاليم الإسبانية، والوضع الإقتصادي الذي تعاني منه إسبانيا، جعل من كاتالونيا المساهم الأكبر في الموازنة الإتحادية، مما أوجد لديها وازعاُ إضافياً للمطالبة بالإنفصال، تماماً كما حصل في ولاية كاليفورنيا الأميركية المحسوبة تاريخياً على الديموقراطيين، وانتفضت بعد فوز ترامب، وطالبت بإجراء استفتاء للإنفصال وارتفعت في شوارعها وعلى الدوائر الرسمية أعلام “جمهورية كاليفورنيا”، التي كانت ستغدو الدولة الثالثة الأغنى في العالم لو تمّ لها إجراء استفتاء وإعلان الإنفصال، لكن تعقيدات دستورية وقانونية حالت دون ذلك، وأهمها ما يترتَّب عليها من إلتزامات مالية ضخمة لصالح الخزينة الإتحادية، مما حال دون تحقيق هذه الرغبة التي قد تسعى اليها مستقبلاً، لكن وضع كردستان الفقيرة والمطوَّقة من أربع دول هو مختلف، وخطوة البرزاني أقلَ ما يُقال فيها أنها انتحار، له ولسكان الإقليم.
ليس لدى كاتالونيا أو كاليفورنيا أعداء أو خصوم سوى الكيان الإتحادي الذي تنتمي إليه كلّ منهما، ولا يُشكِّل إنفصالهما متاعباً لجيرانهما، لكن كردستان ممنوعٌ قيامها، لأنها ترمز الى كيان عدواني مُستفزّ، وبداية تفكيك دول الشرق الأوسط لدويلات مذهبية وعرقية وإعادة خلط أوراق تُطيح بإتفاقية سايكس – بيكو، التي انبثقت منها الكيانات السياسية الحالية قبل مئة وعام واحد، ولن تكون كردستان في حال قيامها قبلة لأكراد الشتات، لأنها “جزيرة برِّية” لا إطلالة لها على العالم سوى عبر مطارات تمَّت مقاطعتها، وموردها الأوحد هو النفط الذي ستُقطع أنابيب تصريفه، والإستثمارات الحالية الناشطة التي ارتحلت الى كردستان نتيجة استتباب الأمن منذ الحرب على العراق، فلأن الأقليم “بقعة عراقية آمنة”، والبيشمركة الذين نجحوا في الحفاظ على الأمن الداخلي للإقليم، واجتاحوا كركوك وأراضٍ عراقية أخرى مُتنازع عليها خلال مراحل ضعف الجيش العراقي، ليسوا جيشاً بإمكانه حماية كيان معادٍ لجيرانه، وعناصر البيشمركة هؤلاء، مدعوون للإنضمام الى الجيش العراقي كما صرَّح رئيس الحكومة حيدر العبادي من قصر الإليزيه أمس، وما على البرزاني سوى التواضع وفرملة خطوات عنجهيته، وأن يعمل بوصية شريكه الطالباني الذي ارتحل، والتفاوض مع الحكومة المركزية في بغداد على أساس “حُكم ذاتي” ضمن إطار الوحدة العراقية، وإلَّا فإن البرزاني يهرول نحو الإنتحار لشخصه وشعبه، وعندها، إقرأوا الفاتحة على وفاة الطالباني وانتحار البرزاني وعلى أحلام الأكراد!
المصدر: موقع المنار