حتى وإن كانت الإدارة الأميركية تعتبر نفسها مؤسسة سياسية باستراتيجية ثابتة تحكمها دوائر القرار الكبرى، ولا تتغيَّر سياستها جوهرياً بتغيير الرئيس أو الحزب الحاكم، فإن المشكلة، أن أي رئيس أميركي يحتاج عند ترشيح نفسه لولاية أولى أن يكسب رضا اللوبي الصهيوني وبالتالي الناخبين اليهود، ويُمضي السنوات الأربع من ولايته الأولى ساعياً لإستمرار الودّ، ضماناً لبقاء اللوبي والناخب اليهودي الى جانبه في انتخابات الولاية الثانية، وهذا ما حصل مع معظم الرؤساء الأميركيين، لكن متى شارفت الولاية الثانية على الإنتهاء يجد الرئيس نفسه حراً من القيود، ويُبدي مرونة في بعض الملفات الدولية، كما حصل مع الرئيس باراك أوباما، سواء من خلال الإتفاق النووي التاريخي مع إيران، أو ما حصل في الأمم المتحدة مؤخراً بامتناع أميركا عن التصويت وعدم ممارسة حق “الفيتو” على قرار إدانة توسيع المستوطنات في فلسطين المحتلة.
وإذا كانت شخصية الرئيس المنتخب دونالد ترامب مبنية على أنه أحد أباطرة المال والأعمال والإقتصاد، وخارج أية قيود إيديولوجية وسياسية، فهو يختلف عن أوباما المُقيَّد بحزبه الديموقراطي والذي يبحث عن عمل فور انتهاء ولايته، وترامب الجمهوري سيكون أكثر تحرراً من أوباما الديموقراطي في مواجهة الكونغرس ذا الغالبية الجمهورية، لسببٍ واضح، أن ترامب غير مدين حتى للجمهوريين بوصوله الى البيت الأبيض من جهة، ومن جهة أخرى، هو رجل براغماتي بعقل تجاري لا تعنيه المبادىء الثابتة للمؤسسة السياسية الأميركية، إذا كانت هذه المبادىء غير قابلة للتطويع بما يتوافق والرؤية الخاصة به، وهنا ينشأ النزاع مع الكونغرس ويلجأ الرئيس كالعادة الى “الفيتو” الرئاسي، أو يتَّخذ قرارات فردية رئاسية إنتقامية من الخصم، كما حصل في قرار أوباما الراحل عن الحُكم طرد 35 ديبلوماسي روسي من الولايات المتحدة، على خلفية دعمهم المزعوم لترامب في حملة إنتخابية كانت نتيجتها هزيمة صادمة للديموقراطيين وليس فقط لهيلاري كلينتون.
لكن تغريدات ترامب على تويتر لا تعكس السياسة التي هو قادر على انتهاجها عند وصوله الى البيت الأبيض، لأن تصريحاته بعد الفوز ناقضت ونقضت الكثير من تصريحات الحملة الإنتخابية، والظروف التي واجهها أوباما وأملت عليه تغيير سياسته هي نفسها التي سيواجهها ترامب في الملفات الكبيرة، ولعل ملفات إيران وروسيا والقضية الفلسطينية أمثلة دقيقة للحديث عن تركة أوباما لخليفته ترامب.
الإتفاق النووي مع إيران ليس إتفاقاً مع أميركا، بل مع دول الخمسة زائد واحد وتبنَّته الأمم المتحدة، وهذا الإتفاق حصل بعد فشل أميركا والغرب في ترويض الإرادة الإيرانية الصلبة وسلب حقّ إيران في الإنتاج النووي للأغراض السلمية، وبمجرَّد أن أبدى ترامب رأياً مسبقاً بالملف النووي، وبأنه سوف يُعيد النظر بهذا الإتفاق، صدرت الأوامر العليا من القيادة الإيرانية ومعها البرلمان بوجوب إعادة الأمور في النزاع مع أميركا الى مرحلة ما قبل الإتفاق، واستُنفِرت دوائر الخبراء والإنتاج النووي لإعادة المباشرة بأعمال التخصيب وما يستتبعها من خطوات عملانية، عند أي إجراء أميركي مناقِض للإتفاق.
والتقارب مع روسيا في الشرق الأوسط لم يكن الخيار الحرّ للرئيس أوباما، بل هو واقع الحال الذي فرضه ميزان القوى بين القوتين العُظميين، وكما فشِل منطق فرض العقوبات على إيران فشِل أيضاً مع روسيا على خلفية الأزمة الأوكرانية، وأمام الهزائم التي مُنِيَ بها العدوان الأميركي المُباشر، أو عبر الكفوف البيضاء والأدوات في الشرق الأوسط، سواء في اليمن او العراق أو سوريا، وأوباما اعترف لروسيا أخيراً بحقوقها المرتبطة بالنفط والأمن في هذه المنطقة، وقد تكون اهتمامات أميركا بنزاعها مع الروس في منطقة بحر الصين، هي التي عجَّلت في حصول تسوية وانكفاء عسكري وأمني أميركي – غربي بعد فشل الأساليب الملتوية في مكافحة الإرهاب، وبعد أن “مزَّق” هذا الإرهاب حدود الدول الأوروبية وزعزع الإتحاد الأوروبي ومعه حلف “الناتو”، وبات الرئيس بوتين صاحب الكلمة الفصل في سوريا بشكلٍ خاص، خاصة بعد انتصارات الجيش السوري في الميدان، وبعد اللقاء الشهير الذي جمع وزراء الخارجية الروسي والإيراني والتركي في موسكو، وتقرر خلاله السعي الجاد لتسوية سياسية في سوريا، وأعلن الرئيس بوتين بكل ثقة يوم أمس وقف النار على كامل الأراضي السورية وجرى الإلتزام الجزئي به لا بل المقبول جداً عند منتصف ليل أمس الخميس.
وإذا كانت أميركا أوباما، قد أذعنت مهزومة في صراعها مع إيران أو روسيا، فإن المفاجأة جاءت من فلسطين المحتلة، وردَّة فعل الكيان الصهيوني على قرار مجلس الأمن في إدانة الإستيطان وإعتباره العائق الحقيقي أمام حلّ الدولتين، لتأتي تغريدة ترامب عبر تويتر يطمئن من خلالها إسرائيل على أمنها ويَعِدها بـ “المنّ والسلوى” فور وصوله الى البيت الأبيض في العشرين من يناير / كانون الثاني المقبل.
تغريدة ترامب الأخيرة رسالة مودَّة الى إسرائيل، وهو يُدرك أن الحيثيات وراء قرار إدارة أوباما إثارة الموضوع والدعوة الى وقف الإستيطان والعودة الى مفاوضات الدولتين بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين، يتطلَّبها واقع رئيس راحل عن الحكم في أميركا يجعله يبذُر شيئاً من منطق السلام للتاريخ قبل رحيله، وكانت مُجاراة لهذا المنطق من وزير خارجيته جون كيري، من أن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة تهدد أمل الفلسطينيين بإقامة دولتهم ومستقبل إسرائيل في آن واحد، وجاء تصريح كيري أيضاً ضمن سياق لفظ أنفاس الرحيل عن الحياة السياسية، ولا قيمة له في الموقف الأميركي الرسمي خاصة بعد أن ندد رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، برؤية كيري لحل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، واصفاً إياها بأنها “منحازة”.
قلق إسرائيل الفعلي ليس من الموقف الأميركي السياسي المستجدّ، ولا من وقف تدفُّق الأسلحة الأميركية المتطوِّرة الى إسرائيل، بل من الواقع الداخلي الشعبي في الكيان الصهيوني الذي يعيش “رُعب المصير الوجودي”، الذي لا تنفع في تبديده مواقف الدول والأحلاف العسكرية، طالما بات إحصاء الصواريخ ومداها التي يمتلكها حزب الله الهاجس الأكبر للقيادة الإسرائيلية وللمستوطنين الإسرائيليين، وهنا تكمن أوهام ترامب من أنه قادرٌ بتغريدة على تويتر أن يُطمئن الإسرائيليين المتوتِّرين، الذين يُدركون أن أية حماقة يُمكن أن ترتكبها قيادتهم، فإن أجواء الكيان الصهيوني ستكون مفتوحة لتغريدات الصواريخ…
المصدر: موقع المنار