تمثل النفايات في قطاع غزة جبلاً مرعباً ينمو يوماً بعد يوم؛ فعلى مساحة لا تتجاوز 378 كيلومتراً مربعاً، يعيش نحو 2.23 مليون نسمة، وهو ما يجعل قطاع غزة واحداً من أكثر المناطق ازدحاماً في العالم.
وفي هذا السياق، أصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية تقريراً، أشارت فيه إلى ان القطاع كان يُنتج يومياً قبل الحرب نحو 1770 طناً من النفايات الصلبة المنزلية، وهذا الإنتاج ليس مجرد أرقام تُحصى، بل أيضاً هو واقع يتعاظم مع الزمن، وخصوصاً في ظل حصار ظالم استمر 17 عاماً من العزلة والضائقة.
وكأن معاناة الناس قبل الحرب المروعة لم تكن كافية، فأخذت النفايات الصلبة، منذ بدء الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر، تتراكم أكثر فأكثر، محولة الشوارع إلى مشهد مأساوي؛ فتجد تلالاً من النفايات تتراكم في الطرقات إلى جانب البيوت والمباني المدمرة. وقد خلفت هذه الأوضاع القاسية آثاراً مدمرة في صحة وحياة الناس، وشلت البيئة المأهولة في القطاع.
وقد أدى ارتفاع كميات النفايات بصورة كبيرة إلى تهديد المناطق بأزمة بيئية وصحية خطِرة؛ فعلى سبيل المثال، تفاقمت في خان يونس مأساة النفايات الصلبة في الأشهر الأولى من الحرب، إذ ارتفعت الكميات من 250 طناً يومياً إلى 350 طناً يومياً بسبب حالات نزوح السكان من شمال القطاع، وهذا الارتفاع الهائل والضغط المتزايد للنفايات أثّر بصورة كبيرة في أداء الفِرَقِ المكلَّفة بجمعها في الجنوب، مع التهديدات المباشرة من القصف والاجتياح الإسرائيليَين، ونقْص الوقود، وتدمير الشوارع الذي أوقف حركة النقل، بالإضافة إلى تعرُّض سيارات جمع النفايات وحاوياتها للتلف والضرر، وهو ما جعل التعامل مع هذه الكميات الهائلة صعباً، فضلاً عن غياب إمكانات التخلص منها.
ولقد تفاقمت هذه الحالة مع استمرار نزوح معظم سكان شمال غزة إلى مناطق خان يونس ورفح، إذ ارتفع عدد السكان إلى نحو مليون شخص ونصف المليون في هاتين المنطقتين، وأصبح الوضع كارثياً في تلك المناطق، وخصوصاً مع تدمير البنية التحتية المختصة بإدارة النفايات الصلبة وتراكُمها حول السكان.
ومع تراكم النفايات، انتشرت الحشرات والقوارض، متسببة بزيادة مخاطر الأمراض والتهديدات الصحية؛ فتحلُّل هذه النفايات يطلق غازات ضارة، كالميثان وثاني أكسيد الكربون، وهو ما يلوث الهواء ويسبب روائح كريهة، ويشكّل خطراً على صحة الجهاز التنفسي. ولا يقتصر الأمر على ذلك؛ فعبث الأطفال بالنفايات المتراكمة ينقل عدة أمراض خطِرة إليهم، وقد سُجلت حالات متعددة لمشكلات في التنفس في هذه المناطق، وخصوصاً بين الأطفال وكبار السن.
إن تراكُم كميات هائلة من النفايات الصلبة في الشوارع في قطاع غزة منذ بداية الحرب في تشرين الأول/أكتوبر 2023 أصبح مأساة حقيقية، وليس هناك خيار سوى اللجوء إلى حرق تلك النفايات للتخفيف من الأضرار التي تُسبِّبها، لكن هذا الحرق يُعَدُّ مأساة أُخرى؛ إذ إن هذه العملية، بكل مكوناتها المُلوَّثة من البلاستيك والمواد الكيميائية البترولية والصناعية المعقدة، تُنتج كميات ضخمة من السموم المسرطنة والغازات السامة، وكالدايوكسين وأول أكسيد الكاربون وأكاسيد النيتروجين والكربون وعدة سموم أُخرى، تقتل الناس من دون أن يشعروا.
وإن تساقُط قطرات المطر الثقيلة في الشتاء على تلك الجبال المكدَّسة من النفايات في قطاع غزة زاد من مرارة الوضع الذي يتفاقم بسبب الحرب المتواصلة، وهذا المطر الذي غمر قطاع غزة عزز تفاقُم الأزمة البيئية، وعقّد الوضع الحياتي في هذه البيئة المحيطة، إذ حمل في طياته مجموعة من الملوثات الخطِرة، وهو ما فاقم معاناة الأهالي اليومية.
النفايات الطبية: خطر يهدد الحياة
يُعتبر التحكم في النفايات الطبية أمراً ضرورياً في ظل الأوضاع القاسية التي يواجهها قطاع غزة، إذ بلغت كمية هذه النفايات، قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 نحو 1667 كيلوغراماً يومياً، ومع بدء الحرب، تفاقمت مشكلة إدارة النفايات الطبية بصورة كبيرة؛ إذ أضاف تزايُد أعداد الجرحى وتوقُف إمدادات الوقود تحديات جديدة أمام إدارة النفايات الطبية، وهو ما جعل الوضع يتفاقم ويعرض صحة وسلامة الأهالي للمزيد من المخاطر والتهديدات.
وهذه النفايات الطبية الملوّثة أصبحت مصدراً رئيسياً للخطر الصحي، مُسببة تفاقم أعداد الوفيات في المنطقة. ومع تفاقُم الأوضاع القاسية خلال فترة الحرب، فشلت أنظمة إدارة النفايات الطبية كثيراً، الأمر الذي أثّر سلباً في الجهود المبذولة لجمع ومعالجة هذه النفايات.
ويتعلق الأمر بصحة عدة أفراد، فالأمراض المعدية، كالتهاب الكبد الفيروسي، يمكن أن تنتقل عبر الإبر الملوثة، الأمر الذي يعزز خطر العدوى والانتشار، وهذا يجعل إدارة النفايات الطبية ضرورية للمحافظة على الصحة العامة ومنْع انتشار الأمراض المعدية، والعاملون في مراكز الرعاية الصحية هم الأكثر عرضة للمخاطر.
ومع أوضاع الحرب والدمار، اضطر كثيرون إلى اللجوء إلى المستشفيات كملاذ آمن بعد تدمير منازلهم في قطاع غزة جرّاء القصف العشوائي، وهو ما جعلهم عرضة لمخاطر النفايات الطبية. والمخاطر تتزايد، إذ يجد من يلجأ إلى المستشفيات للعلاج الصحي أنفسهم في خطر إضافي بسبب النفايات الطبية.
وفي ظل الحرب التي تعصف بقطاع غزة، يتفاقم الخطر الناجم عن النفايات الطبية الخطِرة الممزوجة بالنفايات العامة. ويعزز التفريق الفعّال بين النفايات الطبية الخطِرة والنفايات العادية السلامة البيئية والصحية، ومع زيادة عدد الجرحى وعدم توفُر الأكياس الصفراء للنفايات الطبية الخطِرة غير الحادة في ظل الطوارئ، يتم إلقاء هذه النفايات، الخطِرة منها والعادية والمنزلية، في مكان واحد، الأمر الذي يُفاقم المشكلة ويزيد من مخاطرها.
تداعيات مخلفات الهدم والتدمير والحرب
نتيجة الدمار والهدم الناتج من قصف متكرر ومتعمد لمبانينا ومنشآتنا في قطاع غزة، ينغمس كل فرد وكل زاوية من زوايا هذه الأرض في بحر من الأطنان المتراكمة من نفايات الخراب والدمار الناجمة عن تدمير المنازل والمباني والمنشآت، وتزايَد هذا الدمار مع مرور الزمن، ولم تتوقف الحرب على غزة بعد.. فباتت الطرقات والشوارع العامة مكدسة بآلاف الأطنان من نفايات المباني والمنشآت والبنى التحتية، ملوِثةً ومشوِّهةً مظهر المخيمات والمدن الفلسطينية في قطاع غزة، وجاذبةً الحشرات الضارة والقوارض، وما تساهم فيه من الأمراض. وإن تفشّي هذه النفايات وبقايا الركام له أثر بليغ في المياه الجوفية والبيئة الزراعية والمناطق الطبيعية، ويتطلب التخلُص من هذه الكوارث البيئية تكاليف باهظة وجهوداً مضاعفة للتعامل مع آثارها الضارة على مدار سنوات.
ويحمل قطاع غزة أعباءً لا تُحتمل، فهناك كذلك الكميات الضخمة من المخلفات المتفجرة التي تهدد حياة السكان بسبب تلويثها للبيئة المحيطة، وقد استخدمت القوات الإسرائيلية أسلحة غير مألوفة، تجاوَزَ تأثيرها حدود البشر لتُلحق الأذى بالبيئة في المدى البعيد، كالقنابل الفسفورية، والدايم، والحرارية الفراغية المُحرقة، وأسلحة تحتوي على يورانيوم مُستنقَذ.
وقد أكدت وزارة الصحة الفلسطينية في نتائج فحوصات عينات من ضحايا حرب الفرقان وجود مواد سامة ثقيلة، كاليورانيوم بنسب تتجاوز كثيراً المعدلات الطبيعية في أجساد المفحوصين. ووكشفت تقارير الباحثين الإيطاليين، بالتعاون مع وزارة الصحة حينها، تسمُم الأجنة، وتشوُهها، وتهديد حالات العقم بين الرجال والنساء، نتيجة استخدام إسرائيل تلك الأسلحة المحظورة دولياً خلال حروبها على غزة.
وتشكّل النفايات إحدى المعضلات المرعبة في قطاع غزة، وباستمرار الحرب، تتفاقم، وسنرى آثارها جلية في سنوات عديدة قادمة.
النفايات.. قاتل صامت يتربص بأهالي قطاع غزة
مع دخول “حرب الإبادة” على قطاع غزة شهرها السابع، أصبح “تفشي النفايات” وتراكمها بفعل القصف المتواصل، وما رافقه من موجة نزوح هائلة لمئات الآلاف من السكان، بمثابة “القاتل الصامت” الذي يفتك بأرواح سكان القطاع ليفاقم من معاناتهم مع الموت والفقد يومًا بعد يوم.
ويعاني النازحون، لاسيما في شمال قطاع غزة، من تفاقم مشكلة تراكم النفايات بشكل عشوائي في الشوارع والأزقة، ما يسبب انبعاث روائح كريهة وتواجد كثيف للحشرات، وهو ما نتج عنه تفشي للعديد من الأمراض.
وزارة الصحة الفلسطينية في قطاع غزة، ناشدت، الأربعاء، كافة المؤسسات المعنية و الأممية والإنسانية بضرورة وسرعة التدخل لإنقاذ سكان القطاع من الأمراض الناتجة عن التلوث.
وأبرزت في بيان انتشار العديد من الأمراض والأوبئة نتيجة طفح مياه الصرف الصحي في الشوارع وبين خيام النازحين، وعدم توفر المياه الصالحة للشرب بالقدر الكافي.
واعتبرت أن هذا الوضع “ينذر بحدوث كارثة صحية خاصة بين الأطفال”، مشيرة إلى رصد العديد من حالات الحمى الشوكية ومرض الكبد الوبائي بين المواطنين.
والأسبوع الماضي، حذّر المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، من تداعيات صحية وبيئية خطيرة على سكان شمال القطاع، على خلفية التلوث البيئي “غير المسبوق” الذي خلفه تكدس جبال نفايات، ومئات المقابر الجماعية المؤقتة، وركام المنازل جراء القصف الإسرائيلي.
المكتب الحكومي كشف في بيان أن مناطق شمال قطاع غزة “تتعرض لمكرهة صحية وتلوث بيئي غير مسبوق ينذر بتداعيات صحية وبيئية خطيرة على أكثر من 700 ألف نسمة يعيشون فيها”.
ولفت إلى “تكدس جبال من النفايات، ومئات المقابر الجماعية المؤقتة، وركام المنازل في مختلف المناطق”، موضحًا أن حجم النفايات المنتشرة يقدر بأكثر من 75 ألف طن، في حين تنتشر مئات آلاف أطنان الأنقاض وركام المنازل.
وشدد البيان الحكومي على أن هذه النفايات تسببت بانتشار الأمراض المعدية لآلاف المواطنين، لا سيما الكبد الوبائي والأمراض الجلدية، وباتت بيئة خصبة لتكاثر الذباب والبعوض والحشرات والزواحف الضارة، فضلا عن تأثيرها البيئي لقيام المواطنين بإضرام النار فيها.
ووفقًا للسلطات في قطاع غزة، يزداد هذا الواقع خطورة في ظل عدم قدرة البلديات على التعامل مع هذه الكميات الضخمة من النفايات والركام، نظرًا لعدم توفّر الآليات والمعدات المناسبة، بعد قصف الاحتلال لعشرات المعدات والآليات التابعة للبلديات، وكذلك عدم وجود الوقود الكافي.
المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية + مواقع