لم يعد خافياً على أحد أنّ علم المصطلحات بات يُعدّ جزءاً أساسياً من الحرب الناعمة التي يخوضها محور الاستكبار العالمي ضدنا؛ ففي معركتنا الوجوديّة مع الكيان الصهيوني، هناك مصطلح نستخدمه في خلط واضح بين المفهوم وحقيقة المعنى بوجهَيه الواقعي والإيديولوجي، مثل: الإعلام العبري، الصحيفة العبريّة، الدّولة العبريّة… وكأنّها مسلّمات تاريخيّة، وهو ما يفضي إلى وصف الكيان الصهيوني أحياناً بـ«الدولة العبريّة»، وصحافته بـ«الصحف العبريّة».قبل تبيان زيف هذا الادّعاء، لا بدّ من القول إنّه ليس عبثاً اختيار الكيان الصهيوني اللغة العبريّة لتكون الجزء الأساسي من هويته المصطنعة في فلسطين المحتلّة؛ فهو خلق أسطورة اللّغة حين نبشها من تاريخ عمره أكثر من 8 آلاف عام على اندثارها ليدلّل بها على انتماء غابر. ونحن بدورنا صدّقنا مسألة إحيائه لهذه اللّغة. ولكن السؤال الجدّي: هل فعلاً نجح في هذا «الإحياء»؟ لتكون الإجابة عن هذا السؤال موضوعيّة وعلميّة؛ نتوقف أولاً ـــ بعجالة ـــ عند المرجعية التاريخية للانتماء اليهودي الذي تدّعيه الصهيونية إلى «القبيلة التوراتية» الأصيلة الممتدة إلى زمن النبي موسى، وفي أنّهم العبرانيون.
أوّلاً: العبريّة والانتماء التاريخي إلى «بني إسرائيل»
يقول الدكتور فرح موسى، وهو العميد السابق لكليّة الدراسات والعلوم الإسلاميّة في الجامعة الإسلامية في لبنان، إنّ أهل التأريخ والتفسير لم يتحدثوا عن ظهور لهذا المصطلح ـــ أي اليهود ـــ في زمن أنبياء الله تعالى داود وسليمان وموسى، أي في القرن العاشر قبل الميلاد: «فهناك مئات السنين بين بعثة النبي موسى ونزول التوراة وبين التشكّلات الحزبية في تاريخ “بني إسرائيل”. ومنها الحزبيّة اليهوديّة، وكانت وظيفتها تحريف التوراة واستثمار الدّين في السّياسة والمال لإعادة النّاس إلى جاهليّة ما قبل التوراة، ليكونوا ملوكاً وطواغيت يستثمرون في الدّين، ويحرّفون الكلم عن مواضعه، ويقتلون النّاس والنبيّين بغير الحق! ﴿ذَٰلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)… فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ۖ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾ سورة مريم، الآيات 34-37».
هذا يفضي إلى حقيقة تؤكد أن اليهود تاريخياً لا علاقة لهم بالعبرانيين الذين عبروا مع النبي موسى البحر في أيام فرعون الطاغية. وتالياً: «بنو إسرائيل» مثلهم مثل العديد من الأقوام والحضارات التي اندثرت عبر التأريخ القديم واندثرت معهم كتبهم. وهذا يعني هناك انقطاع تاريخي بين ظهور اليهود وبين زمن الوحي السّماوي. ويؤكد إيريك كفيندزلاند، المؤرخ النرويجي، عدم وجود دليل مادي على وصول اليهود من فلسطين إلى شبه الجزيرة العربيّة، خلال بحثه عن أحوال الطوائف اليهوديّة في دول الخليج العربي. كما يرفض المؤرخ اليهودي النمساوي آرثر كوستلر، في كتابه «إمبراطوريّة الخزر وميراثها، القبيلة الثالثة عشرة»، الاعتقاد الشائع بوجود عرق يهودي متحّدر من «القبيلة التوراتية»، ففي تتبّعه لتاريخهم، يتبيّن له أنّ أصل اليهود قليلي العدد الذين عاشوا في فلسطين، إبّان الحكم العثماني، وهم اليهود السفارديم، كانوا مقيمين في إسبانيا 1492م، وأمّا معظم اليهود الذين عاشوا في الأقطار العربيّة، فأصولهم تعود إمّا إلى العرب، وإمّا إلى بربر شمال أفريقيا الذين تهوّدوا بعد آلاف السنين. أمّا أصول يهود الغرب، فهم من أوروبا الشرقية، ممن يدعون الإشكناز، وقد أثبت كوستلر بدلائل تدعم الحجّة القويّة التي قدّمها المؤرخون المُحدثون، سواء النمساويون اليهود أو البولنديون، أنّ الغالبية العظمى من اليهود المعاصرين ليسوا من أصل فلسطيني. فكما يؤكد المؤرخ اليهودي المعاصر إبراهام بولياك، في كتابه «خازاريا»، إنّ «كتلة اليهود الخزر – في عام 740 ميلاديّة اعتنق ملك الخزر وبلاطه وعسكره اليهوديّة – كانت ركيزة المجتمع اليهودي الكبير في أوروبا الشرقيّة، وأن أبناء هذه التجمّع، هؤلاء الذين بقوا حيث هم، وهؤلاء الذين هاجروا إلى الولايات المتحدة وغيرها من الأقطار الأوروبيّة، وهؤلاء الذين هاجروا إلى “إسرائيل”، ويمثلون الغالبية العظمى من “اليهوديّة العالميّة” اليوم. وهذا يعني أنهم متحدّرون من أقاليم مختلفة وثقافات مختلفة، وهم أيضاً انقسموا إلى طوائف عديدة متناقضة متناحرة في ما بينها.
ومن لا يمكنه تصديق هذه الوقائع، يكفيه ما يكتشفه علماء آثار ومؤرخون يهود حاليون، وأبرزهم إسرائيل فلنكشتاين، وزائيف هيرتسوغ، وإيلان بابيه، وشلومو ساند – بعضهم ارتحل وغادر الكيان نهائياً – من عدم العثور على شواهد تاريخيّة أو أثريّة تدعم قصص الصهيونية في التاريخ اليهودي المزعوم في فلسطين، ويوثّقون بالأدلّة دحض الادّعاءات التوراتية في أساطيرها، وهي تتناقض تناقضاً علمياً مع حقائق التاريخ والواقع. ويكشف ساند أنّ الطامحين إلى إنشاء «قوميّة إسرائيليّة» بخلفية يهوديّة، ركّزوا على ما يجمع الجماعات الدينيّة، فوجدت الحركة الصهيونيّة الاستعمارية أرضيّة لاهوتية لتبني عليها المشتركات التي أسّست «إسرائيل» على أساسها.
ثانياً: اختلاق اللّغة العبريّة – الإسرائيليّة
1- العبريّة القديمة لهجة محكيّة كنعانيّة: العبريّة لغة سامية كنعانية، مثل: العربيّة، الآشورية، البابلية، السريانية، ولغات جنوب الجزيرة العربيّة، والحبشية. ولكن يؤكد الباحثون أنّه أصلاً لا وجود للغة عبريّة، إنّما هي إحدى اللهجات الكنعانيّة، ولم يتحدث بها العبرانيون (بنو إسرائيل) إلا لمدة قصيرة جداً، لذلك لم تصل إلى المرحلة التي تجعل منها لغة مكتملة العناصر. ومع ذلك يمكن تقسيم وجودها التاريخي إلى أربع مراحل:
• العبريّة القديمة: وردت كلمة العبري والأبري والهيبري وما قاربها لفظاً في أحافير تل العمارنة وفلسطين وآسيا الصغرى والعراق، وجاءت بهذا المعنى في الكتابات المسماريّة والفرعونيّة، ولم يكن لليهود وجود في ذلك الحين. ولما وجدوا ونسبوا أنفسهم إلى إسرائيل (يعقوب) كانوا هم أنفسهم يقولون عنها “لغة كنعان”، ثم انطوت العبريّة وانتهت في الآرامية التي غلبت على القبائل جميعاً، بين فلسطين والعراق. وعلى هذا الأساس يؤكدون أنّها لم تكن لغة التوراة الأصليّة على خلاف ما يزعمه اليهود. ويستند علماء الآثار والمؤرخون إلى أن التوراة (الأسفار الخمسة) كتبها مؤلفون مجهولون بعد وفاة موسى بعدة قرون. وقد أكد ذلك، أيضاً، مؤلف سفر التثنية (ص 44)، كما أنّ لغة مصر القديمة الهيروغليفية هي التي كانت تستعمل حينذاك في أرض كنعان التي خرج إليها بنو إسرائيل. ويعترف اليهود بأنّه بعد ضياع التوراة الأصلية أعيد كتابتها بين عام 450 ق. م. وعام 250 ق. م. بالكتابة العبريّة المقدّسة في كتابين، هما: كتاب عزرا وكتاب نحميا، فى حين يؤكد المؤرخون أنّ عزرا ونحميا حين كتبا التوراة بعد السّبي البابلي 586 ق. م. كتباها باللّغة الآرامية. وحتى عند الاطّلاع على سفر التوراة، يُلاحظ عدم ورود كلمة عبريّة إطلاقاً، وكانت الإشارة إلى اللّغة تأتي تحت مسمّى لغة كنعان، والتي ترجع جذورها إلى اللّغة العربيّة القديمة.
• عبريّة المشناه: هي مشبعة بالآراميّة وبمفردات فارسيّة ويونانيّة، وماتت مع القرن الثاني للميلاد، والآرامية كانت سائدة في فلسطين قبل عصر المسيح، وفي أثنائه وبعده إلى جانب اليونانيّة، ما اضطرّ اليهود إلى ترجمة أسفار موسى الخمسة إلى اليونانيّة (الترجمة السبعينية).
• العبريّة الوسيطة: استخدم يهود أوروبا «العبريّة التلموديّة»، في كتاباتهم الدينيّة، واستخدموا لغات البلاد التي يعيشون فيها للمؤلفات الدنيويّة، واستخدم يهود البلاد العربيّة العبريّة المستعربة، وهي عبريّة في معظم المفردات، لكنّها عربيّة النحو والدلالة والمفاهيم، واستخدموا العربيّة في كتاباتهم الأخرى. وفي العصور الوسطى، في الغرب، أصبحت العبريّة لغة دينيّة اقتصر استعمالها على الصلوات والكتابات الدينيّة، أمّا الجمارا والزوهار فكتبت بالآرامية أساساً، ومع هذا لم تكن «عبريّة الصلوات» لكلّ الجماعات اليهوديّة، فالإشكناز استخدموا النصوص العبريّة المختلفة عن تلك التي يتعبّد بها السّفارديم.
2- العبريّة – الإسرائيليّة لغة قاصرة يهجرها مصطنعوها: يُذكر أنّ للاحتلال البريطاني، في القرن العشرين، دوراً كبيراً في تدعيم وجود العبريّة في القدس، مع وصول الدفعات الأولى من هجرة اليهود إلى فلسطين؛ حيث سمح بفتح المدارس لتدريسها، ثم جعلها قبيل رحيله بمدة قصيرة لغة رسميّة. هذا أسهم في إنجاح المشروع الاستيطاني الأوروبي، وخاصة أنّ هناك من تولى مهمّة نبش اللّغة الميتة، وهو العالم الصهيوني إليعازر بن يهوذا (1858-1922)، فبدأ في تدريسها، حيث راحت تنشط بين المستوطنين الجدد تباعاً. ولكن اليعازر لم ينجح في مشروعه لولا استناده إلى تراث فكري ولغوي، اعتمد بشكل أساسيّ على اللّغة العربيّة وآدابها وعلى اللّغات التي كانوا يتحدثون بها، سواء كانت الأوروبيّة أو اليديشيّة أو الروسيّة. وتالياً، لا يمكن القول بأنّ لغة عبريّة خالصة قد أعيد إحياؤها، فباعتراف علماء اللّغة من اليهود هي عبريّة سقيمة، ما يجعلها ضحلة في تعبيراتها ومدلولاتها ومعانيها.
ويُقرّ علماء اللّغة بأنّه لا يوجد ما يُسمّى بـ«إحياء اللّغة»، فاللّغات الميتة التي لا ناطقون لها منذ مولدهم، لا يمكن إحياؤها. ولكن بالإمكان إيجاد لغة حديثة تكون مرتكزة بدرجة ما على بعض من مواد اللّغة الميتة. وتُشكّل أسطورة إحياء العبريّة جزءاً من الأساس الأيديولوجي نفسه الذي تطوّرت حوله الأساطير الصهيونيّة التي تسيطر على الواقع السّياسي الإسرائيلي. ولكن بحوث اللّغوي اليهودي حاييم روزن، في خمسينيات القرن الماضي، والتي أوجدت لأول مرة مفهوم «العبريّة الإسرائيلية»، تجرأ على القول بأنها ليست اللّغة الأصلية، وعرض حججاً تقول بأنّ للغات الأوروبية دوراً كبيراً في جذور العبريّة الإسرائيليّة. وما يعطي مصداقية أكبر لأبحاثه اللغويّة، أنه كان عضواً في حزب «مباي»، ومؤمناً بمبادئه، وبالتأكيد لم يكن مناهضاً للصهيونيّة، ومع ذلك فقد قاده ضميره اللغوي إلى الاعتراف بوجود لغة جديدة. وقد أثبتت بحوثه وجود تطورات حديثة كثيرة في العبريّة الإسرائيلية لا يمكن نسبها للغة القديمة. كانت هذه التطورات ناجمة عن لغة الطفولة لجيل الآباء، اليديش.
حالياً، هناك شبه اتفاق، داخل الكيان الصهيوني، أن اللّغة العبريّة تعاني أزمة حادة نابعة من تغيّر أيديولوجيّة «أحادية اللّغة»، ومنذ سنوات عديدة توسّع الاتجاه ناحية تعدّد اللّغات، ما يزيد من ضعف «العبريّة». والأزمة الأوسع هي في السّاحة الأكاديمية، فالعديد من الأكاديميين الصهاينة يرون أن كتابة الأبحاث العلميّة بالعبريّة إضاعة للوقت، فهي لا تُسهم في تقدّم أصحابها، وكذلك الأمر في ما يسمّونه «العلوم اليهوديّة»، ما يفقد قيمة هذه الأبحاث عالمياً لأنها لغة محدودة وغير مستعملة في الأوساط العالميّة. وهنا، هم يعودون إلى قناعة تيودور هرتزل، المؤسس الأوّل للصهيونيّة، حين دعا إلى اعتماد لغة أوروبيّة لـ«شعب إسرائيل»، وتحديداً الألمانية.
إنّ استعمالنا لهذه المصطلحات المصطنعة – الإعلام العبري والدولة العبرية – هو إسهام منّا في تعزيز السرديّة الصهيونيّة وإطالة عمرها، والخطورة الأكبر أنّ اعتياد الأجيال على سماعها وقراءتها من دون تحفّظ والتفات هو ترسيخ لهذه الأباطيل في الوعي التاريخي والديني الذي نبذل الدماء الغالية لاستعادته في فلسطين المحتلّة.
زينب الطحان – كاتبة وأستاذة جامعية
المصدر: صحيفة الأخبار