في العاشر من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، كان الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما ينتظر الرئيس المنتخب دونالد ترامب في زيارته الأولى للبيت الأبيض، لمناقشة ملفات التسلُّم والتسليم بين فريقي عمل الرئيسين، وبدَت مظاهر الحزن على فريق عمل أوباما، وبدا أعضاؤه وكأنهم في مأتم، ليس فقط لأنهم كانوا يتوقّعون ويتمنُّون فوز الديموقراطية الحليفة هيلاري كلينتون، بل لأن ثمَّة أمور ستحصل في البيت الأبيض قد تقلب الطاولة على رؤوس الأميركيين، سيما وأن بداية الفيلم الأميركي الجديد مع ترامب، توحي بأن انقلاباً قد حصل، وأوباما الذي استأجر منزلاً في واشنطن لإكمال تعليم إبنتيه بعد مغادرة البيت الأبيض، يُسلِّم مقاليد الحُكم للساكن الجديد القادم من نيويورك الى واشنطن للقاء السلف، بطائرته الخاصة المزدانة والمُزَيَّنة بالذهب، وأعرب أوباما بعد اللقاء عن وجود خلافات كثيرة بوجهات النظر الإستراتيجية بين الرجُلين على المستويين الداخلي والخارجي.
ولعل أول الغيث في عهد ترامب، اختياره يوم أمس الخميس، الأبيض اليميني المُتشدِّد “ستيفن بانون” ليكون مساعداً رئيسياً له في البيت الأبيض، مما أثار حفيظة بعض النواب الديمقراطيين والجمهوريين على حدّ سواء، إضافة الى جماعات حقوق مدنية، بالنظر الى تاريخ “بانون” في ترويج الكراهية للعرق الأسود وللمهاجرين بشكلٍ خاص، وإجماع الحزبَين الكبيرَين على الخوف من سياسات ترامب الذي تجلَّى خلال الحملة الإنتخابية، بحيث أحجم حزبه الجمهوري عن دعمه المُطلق لشخصٍ مثيرٍ للجدل، فيما تمكَّن ترامب بجهود فردية من سحق الديموقراطيين.
وقال “جوناثان جرين”، رئيس رابطة مكافحة التشهير “إنه يوم حزين عندما يتقرر أن يصبح رجل، قام بالإشراف على الموقع الأشهر لليمين المتطرف – تجمُّع فضفاض من القوميين البيض والمعادين للسامية- موظفاً كبيراً في بيت الشعب”.
شهران لإستلام ترامب مقاليد الحُكم، هُما أشبه بمرحلة الخطوبة والإختبار بين الرئيس المُنتخب دونالد ترامب والشعب الأميركي، ولن تنتهي الخطوبة القسرية بتاريخ 20 يناير/ كانون الثاني 2017 يوم دخوله الى البيت الأبيض، بل أنها ستمتدّ ربما لفترة سنة أو سنتين، حيث على ترامب خلالها محاولة الترجمة بالأفعال، لخطابه الشعبوي الذي دغدغ مشاعر الأميركيين وتمكَّن من خلاله، بمعزلٍ عن حزبه، اجتياز الحواجز لا بل سَحَق بعضها، هو الذي تنكَّرت له كل وسائل الإعلام ولم يبقَ لديه منها خلال حملته سوى 2%، وأذهل مؤسسات استطلاعات الرأي جميعها، وبدا وكأنه ظاهرة معاصرة يُتقن فن مداعبة أحلام الطبقات الفقيرة عبر خطاب مُبسَّط ومجنون، وحقَّق النصر على ليبرالية هيلاري كلينتون التي باتت تعني للناخبين وكأنها مجرَّد رمز رتيب لإستمرار عهد أوباما من جهة، ومن جهة أخرى، فَشَلِها في استقطاب النساء، خاصة أن جنونية ترامب في المناظرات، جعلتها تنساق الى الإسترجال في التحدِّي الفضفاض، مما أبعد عنها إضافة الى القوة الناخبة النسائية، اليد العاملة التي تأذَّت من سياسات الإنفتاح والعولمة خلال السنوات الخمس الماضية، وما رافقها من قُدوم مهاجرين غير شرعيين يُنافسون بكثافة في سوق العمل الأميركية.
المُلفِت في ترامب أنه تحدَّى القوَّة الحزبية، فلا انكفاء حزبه الجمهوري عن الدعم الكامل له أثَّر على حملته، ولا الديموقراطيين خذلوه لأنه بدا ديموقراطياً أكثر من كلينتون! ومن يستعيد تاريخ الحزبَين الكبيرين، يتبيَّن له تركيز الجمهوريين بشكلٍ عام على السياسة الخارجية وما يستتبعها من تدخُّلات عسكرية، كما حصل في عهدَي بوش الأب والإبن، بينما يُركِّز الديموقراطيون على الشؤون الداخلية للمجتمع الأميركي، وما حصل خلال الحملة الإنتخابية الأخيرة أن “الجمهوري” ترامب حاكى الفقراء الأميركيين عبر الهوية الأميركية ولُقمة العيش والأمن الداخلي وإعادة تأهيل المُدُن وبُناها التحتية، بينما ذهبت “الديموقراطية” كلينتون الى استعراض العضلات والتهديد باستمرار التورُّط الخارجي وكان آخرها التهديد بإسقاط الرئيس الأسد قبل يومين من الإنتخابات، هي التي اعترفت في كتابها “خيارات صعبة” أن أميركا صَنَعت داعش.
خلال الساعات الأولى من التصويت يوم “الثلاثاء الكبير”، صرَّح أحد الأساتذة الجامعيين في اميركا بالقول: “أنا سأنتخب كلينتون، لكني أؤكِّد أن 38% من الذين سوف يصوِّتون لها يكرهونها ولا يثِقون بها لكنهم مُجبَرون لأنهم خائفون من خطاب ترامب”، الى أن جاءت المفاجأة، ورغم نيل كلينتون كمية أصوات شعبية أكثر من ترامب، إلّا أنه بلغ بسهولة عتبة الـ 270 صوتاً من الناخبين الكبار للمجمَّع الإنتخابي للولايات، بحيث أنه أوجَد بخطابه الشعبوي المُبَسَّط علاقة ثقة مع أحزمة البؤس حول المُدن وفي الأوساط الشعبية البيضاء الخائفة إقتصادياً على مستقبلها، بالإضافة الى ملل الناخبين من أسلوب كلينتون الإستعلائي الواثق، وتركيزها على مسائل الفضائح الشخصية بحقّ ترامب، فكانت النتيجة بعد هزيمتها، أنها رَفَعت دعوى طلاق من زوجها الرئيس الأسبق بيل كلينتون على خلفية فشلِه في إدارة حملتها الإنتخابية كأحد أبرز مدِيري الحملة.
شخصية ترامب المتحررة من الإيديولوجيات السياسية والنظريات البالية، ونجاحه كأحد أبرز رجال الإقتصاد والأعمال،تُظهر أنه الشخص الذي يُدرِك ماذا يُريد ولن يحتاج الى وفرة مستشارين، وهنا يتساءل أحد السياسيين الأميركيين المُخضرمين، “فرانكلين”، عمَّا إذا كان خطاب ترامب المتطرّف سيبقى على حاله بعد فوزه بالرئاسة، وهل فعلاً سيقوم بترحيل اكثر من 11 مليون مهاجر من الولايات المتحدة؟ ويشير الى أن “أحداً لا يظن أنه سيفعل، ونحن اليوم ننتظر كيف سيحقّق ترامب النقلة بين الخلفيّة التي أتى منها، وهي خلفيّة اقتصاديّة، وبين قيادته للولايات المتحدة الأميركية”.
رمادية تُحيط في نهج سياسة ترامب، كما في الداخل كذلك خارج أميركا، بحيث أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل خلال اللقاء الأخير يوم أمس مع الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما، عن أملها في أن تكون سياسة ترامب حيال الإتحاد الأوروبي مخالفة لخطابه الإنتخابي عندما أعلن عدم جدوى الإتفاقات عبر الأطلسي، وأبدت الحرص على التعاون لإستكمال مفاوضات التجارة الحرَّة مع أميركا، في الوقت الذي أبدت فيه دول حلف “الناتو” عن القلق من عدم استعداد ترامب الى المزيد من ضخ الأموال والتعزيزات العسكرية لدعم حلفٍ لا يجده مُجدياً.
وفي الوقت الذي انتقلت عدوى اليمين المتطرِّف التي يُمثِّلها ترامب الى أوروبا المُرتعدة من الإرهاب، أطلّ رئيس الوزراء الفرنسي ليُعلن عدم استبعاد وصول اليمينية العُنصرية مارين لوبان الى قصر الإليزيه في انتخابات العام 2017، وتجتاح الموجة نفسها البلدان الأوروبية وبخاصة هولندا والنمسا وبلجيكا، مما يؤشِّر الى توالي الصفعات لسياسة العولمة، وعودة المجتمعات الى الإنكماش داخل حدودها، وتمسّكها بهويتها وقوميتها الأصلية بوجه أية بيئة خارجية، في عصرٍ انتهكَ فيه الإرهاب كل الحدود، وتبقى سياسة ترامب في حملته على الإرهاب قيد الإختبار، خاصة أنها لاقت ترحيباً روسياً لافتاً، وليس لأميركا الفضل في تدمير ما صنعت أيديها طالما أن المهزومة هيلاري كلينتون كانت تتباهى بأن داعش صناعة أميركية…
المصدر: موقع المنار