عمرو ناصف – موسكو
فعاليات مسابقة موسكو للقرآن الكريم في دورتها العشرين المنعقدة حاليا في العاصمة الروسية، تقام في مسجد جامع موسكو الكبير، وهو مسجد له مكانة وقيمة شديدة الخصوصية، عند الروس، وعند القوميات الأخرى في روسيا الاتحادية وجوارها.
يعود تاريخ بناء المسجد إلى عام 1902، حيث عندما قدم التاجران باقيروف وعقبولاتوف طلبًا للسلطات في موسكو لشراء قطعة أرض لبناء مسجد (نفس مكان المسجد حاليا)، وفي العام التالي وافقت السلطات على مشروع بناء المسجد، ولذلك، الذي كان يعرف في بعض الأحيان باسم “مسجد التتر” لأن مرتاديه كانوا في غالبيتهم من القومية التترية. ويرجع الفضل في بنائه إلى المهندس المعماري نيكولاي جوكوف، الذي صممه على الطراز البيزنطي، وكان يتسع لنحو 200 مصلٍّ، وفي عام 1904 توجه الإمام الأول للجامع الكبير “بدر الدين عاليموف” في موسكو بطلب إلى السلطات؛ كي تسمح له بفتح أبواب المسجد أمام المصلين وبالرغم من وجود أربعة مساجد أخرى في العاصمة موسكو إلا أنه أشهر وأهم مساجد موسكو على الإطلاق.
وفي زمن الاتحاد السوفييتي، كان للجامع دوره السياسي، وبخاصة في توطيد علاقات السوفييت مع العديد من الدول العربية والإسلامية، وقد زاره كل من جمال عبد الناصر والعقيد معمر القذافي، والرئيس الإندونيسي سوكارنو. واستمر هذا المسجد، إلى جانب مساجد أخرى في روسيا، في لعب ذلك الدور في السياسة الخارجية الروسية، لا سيما في العلاقات مع العالمين الإسلامي والعربي. وفي مطلع التسعينات، أضيف للمسجد دور آخر، داخلي، تجلى في نشر الفكر الإسلامي المعتدل.
في يونيو/حزيران 2008، أُعلن المسجد موقع تراث ثقافي، ومع ذلك، فقد أزيل من قائمة الآثار المعمارية والتاريخية في نهاية 2008. وبهذا لم يكن محميًا وقت هعامي 2009 – 2010 ، حيث تصدع المبنى إلى درجة أنه لم يعد ممكنا الصلاة فيه، وفي حينها تم اتخاذ القرار بإزالة المسجد، وتشييد مبنى جديد يلبي كل المتطلبات.
شُيد المسجد الجديد على موقع المسجد السابق. وقد ساهم في بنائه أعداد كبيرة من الدول والأشخاص، كان على رأسهم الملياردير الداغستاني سليمان كريموف، الذي تبرع بمائة مليون دولار من أصل 170 مليون دولار التكلفة الإجمالي للمسجد الذي تبلغ مساحته 18900 مترا مربعا، ويرتفع لستة طوابق ويتسع لعشرة آلاف مصل، ما يجعله أكبر مسجد في أوروبا.
وكان سماحة المفتي الشيخ راوي عين الدين رئيس مجلس شورى المفتين لروسيا، رئيس الادارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية، قد ناقش العديد من الشركات الهندسية، والمصممين، في مقترحات كانوا قد تقدموا بها لاعادة بناء المسجد، لكنه كان يشدد على أنه لا يريد لمن يرى الجامع أن يقول: طرازا مصريا، أو سوريا، أو مغربيا… أريد من كل من يرى حتى صورة المسجد أن يقول: هذا مسجد روسي. وقد كان للمفتي ما أراد، فالطراز المعماري، والتصميم الخارجي، والداخلي، والزخارف والنقوش، وحتى السجاد.. كلها تنطق بالهوية الروسية.
المسجد الجامع، افتتح رسميًا في 9 ذي الحجة 1436 هـ، يوم عرفة، الموافق 23 سبتمبر/ايلول، 2015 ميلاديًا؛ وافتتحه الرئيس فلاديمير بوتين، وحضر الافتتاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والرئيس الفلسطيني محمود عباس، وكذلك حضر الافتتاح رئيس قيرغيزستان ألمازبيك أتامباييف ورئيس كازخستان نور سلطان نزارباييف. وقد قال الرئيس الروسي في خطاب تدشين المسجد : (إنه حدث كبير لمسلمي روسيا. لقد أعيد بناء أحد أقدم مساجد موسكو في مكانه التاريخي).
وأضاف أن (روسيا دولة متعددة الأديان يعتبر فيها الإسلام أحد الأديان التقليدية). وقال “هذا المسجد سيكون مصدرا لنشر الأفكار الإنسانية والقيم الحقيقية للإسلام”، منددا بتنظيم “الدولة الإسلامية” الذي “شوه صورة الإسلام).
يبلغ طول المئذنتين الرئيسيتين 70 مترًا ويبلغ ارتفاع القبة الذهبية 46 مترًا، واستخدم نحو 12 طنا من أوراق الذهب لتزيينهما.
يضم المسجد بأحد طوابقه متحفا إسلاميا تعرض فيه لوحاتٌ ونسخٌ تاريخية من القرآن الكريم بخط اليد وقطعةٌ من كسوة الكعبة ومجسمٌ للمسجد إضافة لإحدى صحف للقرآن المكتوبة بالفضة، تعود لعدة قرون مضت. ويضم كتبا إسلامية بعدة لغات، ومتاجر لبيع الهدايا التذكارية ذات العلاقة بالطابع أو الطراز الإسلامي.
أعزائي: إن إعادة بناء هذا المسجد، وتوفير الرعاية له، يعد واحدا من الأدلة العديدة على احترام الدولة الروسية للإسلام وللمسلمين، وتوفيرها المناخ المناسب لدور العبادة لمختلف الانتماءا الدينية.
وقد أبدى العديد من المعنيين اهتماما كبيرا بتوصيف مساجد روسيا، ولعل كتاب (مساجد روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة)، يعد من أهم المراجع في هذا الخصوص، وقد أصدرته دار النشر الروسية ناش سلوفو، ونقله إلى العربية الدكتور قيس نيّوف، وراجع الترجمة الدكتور نوفل نيّوف.
فلأوّل مرّة يجمع مجلّدٌ واحدٌ بين دفَّتَيه وصفاً وصوراً فوتوغرافية، لأكثر من 250 مسجداً وموقعاً إسلاميّاً في روسيا وبلدان رابطة الدول المستقلة، تتنوع بين الآثار القديمة والمساجد الحديثة بضخامتها وأساليب بنائها المعماريّ. ويظهر ذلك جلياً في مساجد بُخارى وسمرقند، وفي المدارس الملحقة بها ونبغ فيها واشتهر عدد كبير من العلماء والفلاسفة المسلمين كابن سينا والفارابي، والخوارزمي والبيروني، والطبري والرودكي… الذين كان لبعضهم فضلاً كبيراً في تطور العلوم والفلسفة في أوروبا في القرون التي تلت ذلك.
المصدر: بريد الموقع