جعفر خضور
بطبيعة الحال لا يمكن قراءة المشهد الإيراني بمعزل عن الرؤية المتكوّنة تجاه الأحداث المتلاحقة والّتي لا تزال تلقي بظلال نتائجها على المنطقة بشكلٍ عام، سواء من جهة إظهار تعثّر المحور الصهيو – أميركي في بلورة واقع يتسق والنتائج اللامُنالة إلى حد ما، أو من جهة القدرة على احتواء القوى المتحالفة في صدّ مشاريعه العدوانيّة عبر نظرية “الحرب اللامتناظرة”، هذه القوى التي تشكّل بمجموعها محور المقاومة، إلى جانب الدول التي وضعت لُبُنات ترتيبات الانتقال الهادئ نحو “النظام العالمي الجديد” بما تقتضيه مصالحها الاستراتيجيّة لا سيما أنّها من أوائل المستهدفين من تلك المشاريع.
انطلاقاً مما سبق، ومع بداية اتضاح أطراف أعمال الشغب والاعتداءات الممنهجة على الشعب الإيراني، دعماً، وتخطيطاً، منذ قضية الشابة “أميني”، وصولاً للتفجيرات والقبض على خلايا تعود “لتنظيم داعش الإرهابي”، يحتّم ذلك النظرة للخلف أي “تاريخيّاً”، وعلى وجه الخصوص منذ ما بعد الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، حيث عملت الولايات المتحدة الأميركية مستخدمة التكتيك ذاته (فرّق تَسُد) على توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، من خلال المجموعات الراديكالية المصنّعة بريطانياً، والمدعومة أيضاً منها، وبتسهيل “أمريكي – عربي”، عبر اتفاقيات عقدت على أساس المصالح المتبادلة، والذي بالمحصّلة سيعود بالنفع على الطرف الغربي بتحقيق أحد أهم أهدافه التي وجدت بذورها في الحرب الإيرانيّة – العراقيّة، وبالطرف العربيّ من خلال القناعة بالصراع “السني – الشيعي” وهو الآخر بدوره يمهّد لتغيير مفهوم الصراع “العربي – الصهيوني” مقابل تحالف استراتيجي “أميركي – خليجي” عميق يواجه ما يسمّوه “المدّ الشيعي”، وهدفنا من هذا الاستعراض التاريخيّ الوصول إلى ما يُعرف بـ (قوس الأزمات) أو “خطة برنارد لويس” الخبير البريطاني في الإسلام، التي كُشِفَ عنها في اجتماع بالنمسا – 1979، وتقضي بدعم جماعة الإخوان المسلمين لخلق حالة من الفوضى، وأحد المستهدفين منها، إيـران كَيف؟
يتمظهر سبب دعم بريطانيا وأميركا للخطة بأنَّ تدمير إيران سيكون جزءاً منها، حيث سيعجّل التباطؤ الصناعي، ويسرّع الاتجاه نحو إنشاء كتل إقليمية نقدية أو مصرفية، ويفتت التجارة العالمية، وتفكيك الاقتصاد العالمي، واستخدام أساليب عدم الاستقرار والفساد، حتى الوصول لتفتيتها ونهش صعودها.
يقول الصحفي الباحث سيمور هيرش بمجلة نيويوكر في 5 آذار عام 2007 بمقال تحت عنوان (إعادة التوجيه) كشف فيه وجود خطة لدى حكومة جورج بوش، استراتيجية وضعت الولايات المتحدة على حافة صراع مفتوح مع إيران، والعراق، وسوريا.
وتدعو إلى إخفاء دور المحرّكين والفاعلين الحقيقيين والمنظّمين لتشكيل جبهة متطرفة وطائفية، والحفاظ على سرّية الدعم الأميركي و” الإسرائيلي”، وإظهار التعاون من خلال القناة السعودية والقطرية التي لديها هوس من دور إيران في المنطقة.
تأسيساً على ما تقدّم، يقرأ المشهد باتجاهات متعددة، أهمّها، الفشل الأميركي، أو لنكن أدق انحدار الهيمنة الأميركيّة خلال حروبها منذ ما بعد أحداث أيلول – سبتمبر – 2001، بمقابل تعاظم قوّة المستَهدف، محور المقاومة بوجه الخصوص، رغم سياسة إغراقه في الأزمات، هذا الأمر المتضحّ في حرب تموز 2006، وحرب غزة 2009، وحرب سوريا 2011، وصولاً لما يحصل اليوم في إيران، وهنا تبرز نقطة هامة تستوجب الوقوف عندها، وهي “ولادة النظام العالمي الجديد” الذي مفاتيحه بيد الكتلة الأوراسيّة تلك الكتلة التي تهدد الريادة الأميركيّة وتسحب بِساط السيطرة من تحتها، في ظلّ سعيّ حثيث لبناء نظام أكثر عدلاً وسلماً، ما يجعل الأعداء يلعبون أوراقهم الأخيرة، وبمعنىً آخر يقامرون بها.
تفرض طبيعة التغيّرات المتلاحقة على المحور الغربي اللعب بساحات متعددة، في الوقت الذي تتبدّل فيه طبيعة التحالفات، وتوجّهها إلى مرحلة أكثر متانة وصعود، ومنها اللاعبون الأساسيون في آسيا: إيران، روسيا، الصين، وبمقاربة بسيطة بين الدول الثلاث، يتضحّ لنا الخواصر الرخوة لكل منها، ما فتح للعدو المجال للدخول على خط الأزمات المفتعلة فيها.
ورغبته في ثنيها عن تقدّمها، وإظهارها أمام الرأي العام الدّوليّ بأنها ناثرة الرّماد في العيون، وشيطنتها، تحت المعزوفة التي مللنا سماعها “حقوق الإنسان، الحرية، الديمقراطيّة”. وكأنها من قامت على جماجم الهنود الحمر، ودعمت الوهابيّة، واعتنقت سياسة الرجل الأبيض!!
ما تتعرّض له الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة يبرهن وبقوّة مدى تألّم أعدائها منها، ويأتي في إطار ترتيبها في متون خططهم الخبيثة التي أعلنت عنها دوائر الاستخبارات الأميركيّة وساستها، ولكن الثقة بالقدرة على صدّ هذه الموجات المرسومة كبيرة؛ نتيجة وعي الشعب الإيرانيّ الذي مثّل شيفرة الثورة الإسلاميّة قبل 43 عاماً، والتي غيّرت ترتيب خارطة المنطقة، ومهّدت لهذا الموقع القويّ في منطقة آسيا، وهي بطبيعة الحال حجزت موقعها في النظام العالميّ الجديد مأمول التّشكيل، عبر قيادتها المستبصرة، وسياستها القائمة على مدّ يد العون والدعم لحركات وشعوب المقاومة، ما انعكسَ إيجاباً على خلخلة توظيف فائض القوّة لدى العدو، وتغيّر أنماط المواجهة على كافة الأصعدة، حتى وصلنا لانزواء في تركيبة الدسائس الهادفة لبلقنة المنطقة.
شكّل ما يحصل في إيران ورقة استثمارية لـ”إسرائيل” دعّمت صعود اليمين المتطرّف برئاسة الليكودي نتنياهو، وعادَ ليطرق على دربكّة “مهاجمة إيران، ونشاطها النووي” في محاولة واضحة منه لشحن ناخبيه والمستوطنين بشعور التخفيف من خطر “البعبع الإيراني”، وما تجدر الإشارة إليه إلى أنّ هذا النوع من التهديدات لا زال يُكرر منذ عام 2015 أي ما بعد الاتفاق النووي ( 5 + 1 )، وأيضاً ضبابية مشهد التقارب السعودي – الإيراني، بعدما أُعِلنَ عن إعلام السعودية لأميركا بنية هجوم إيران عليها وما تبعه من تنشيط للقواعد الأميركية في الخليج وهو أمر متوقع وطبيعي إذ ما عُدنا لعام 1945 “ميثاق كوينسي”، شيفرة “الإسلام الأميركي”.
بالطبع، ستفُرد خبرة إيران المكتسبة خلال سنوات الحرب في سورية إذ ما تطوّر المشهد لما ينبئ بخطورة سطور من التعامل معها، في الوقت الذي تتعرّض فيه لهجمة شرسة وقذرة من الإعلام الغربي كان أولها 38 ألف كذبة عبر مواقع ووسائط التواصل الاجتماعي.
يمثّل خطاب السيّد علي الخامنئي خارطة طريق الترتيب الدولي الجديد الذي سينتقلُ فيه مركز الجاذبية لآسيا، على عدة مستويات: اقتصادية، تكنولوجية، عسكرية.
ختاماً، ستنتج الحكمة الإيرانية تعاملاً متفرّداً مع ما يحدث، فتجربتها عبر 43 عاماً سواء على المستوى الداخلي الذي وصل فيها لأوائل الدول العلميّة، أو من خلال دعمها اللا مشروط لدول وشعوب محور المقاومة الخائضة لنير الأزمات باقتدار ومضي نحو الخلاص حتى اللحظة.
المصدر: بريد الموقع