16-04-2024 10:47 PM بتوقيت القدس المحتلة

هل يغفر الله الشرك والذنوب الكبيرة ومتى يكون العفو الالهي العام؟!

هل يغفر الله الشرك والذنوب الكبيرة ومتى يكون العفو الالهي العام؟!

بعد كل هذه التأكيدات المتتالية في هذه الجملة القصيرة ،لا يستطيع احد ان يقول : إن الله لن يرحمني لأن ذنوبي كبيرة او ان الله لن يغفر لي لأني مثقل بالذنوب ،فانك مهما كنت مثقلا بالذنوب الكبيرة والعظيمة فان الله اعظم منها

العفو الالهي العام (15)

هل يغفر الله الشرك والذنوب الكبيرة ومتى يكون العفو الالهي العام؟!لا يستطيع أحد أن يقول :" إن الله لن يرحمني لأن ذنوبي كبيرة او ان الله لن يغفر لي لأني مثقل بالذنوب".. فانك مهما كنت مثقلا بالذنوب الكبيرة والعظيمة فان الله اعظم منها فهو يغفر الذنب العظيم حتى ولو كان مثل ذنب ذلك الرجل الذي كان ينبش القبور في زمن النبي ويرتكب ابشع الاعمال.

بسم الله الرحمن الرحيم :  قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفورالرحيم )الزمر /53

تحدثنا في الحلقة الماضية حول المقطع الاول من هذه الاية ،والذي عنوانه النهي عن القنوط واليأس من رحمة الله ونتحدث هنا حول المقطع الثاني من هذه الاية أعني قوله تعالى: (إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم) ان احدى خصوصيات الاسلام وميزات الاسلام انه لا يصل باتباعه ولا بغيرهم الى طريق مسدود ابداً ،بمعنى ان الاسلام لا يقول لأحد : لن اقبلك بعد الآن، الاسلام لا يطرد احداً من ساحته ولا يقفل الباب بوجه أحد من الناس مهما كان ذنبه كبيراً وعظيماً ،فلا يقفل الاسلام ابواب المغفرة والرحمة بوجه اولئك الخاطئين والعاصين وانما يبقي الابواب مفتوحة امامهم، يبقي ابواب الامل بالمغفرة وبامكانية محو الماضي ونسيانه مفتوحاً امامهم ،الاسلام يعلن بكل وضوح : (إن الله يغفر الذنوب جميعاً ) ليؤكد من خلال ذلك حقيقة هامة وعامة هي : ان كل الذنوب من دون استثناء قابلة للمغفرة والعفو العام .

هذه الآية تعطي الأمل للجميع بأن طريق التوبة والعودة الى الله مفتوح امامهم ولذلك فان (وحشي) المجرم المعروف في التاريخ الاسلامي الذي ارتكب افظع جريمة في  معركة احد عندما قتل حمزة عمّ النبي غدراً وقد كان حمزة قائداً شجاعاً كرس كل حياته في سبيل الدفاع عن النبي وعن الاسلام ، وحشي هذا كان خائفاً من عدم قبول توبته عندما اراد ان يسلم ، لان ذنبه كان عظيماً ولكن مع ذلك فان النبي قبل اسلامه ،وقد قال بعض المفسرين ان هذه الآية نزلت بهذه المناسبة على الرسول الاكرم (ص) وفتحت ابواب الرحمة الالهية امام وحشي وامثاله ممن جاءوا الى النبي تائبين بعد ان انتصر الاسلام على اعدائه.

ولكن لا يمكن ان تكون هذه الحادثة سببا لنزول هذه الاية لان هذه السورة من السور المكية التي نزلت في مكة  قبل ان يهاجر النبي الى المدينة ، ولم تكن معركة أحد قد وقعت يوم نزول هذه الآية ولم تكن ايضاً قصة شهادة حمزة ولا توبة وحشي، فلايمكن ان نقول بان توبة وحشي كانت احد اسباب نزول هذه الاية ،نعم هذه الاية من قبيل القانون العام الذي يمكن تطبيقه على وحشي وعلى غيره ممن ارتكبوا افظع الجرائم والمعاصي في حياتهم.

وعلى اية حال فان عموم هذه الاية يعطينا ان الله يغفر كل الذنوب من دون استثناء حتى الشرك والذنوب الكبيرة الاخرى،ومما يؤكد هذا العموم والشمول الموجود في الاية هو التعابير الواردة في هذه الاية فان جملة ( ان الله يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم ) فيها اكثر من تأكيد على شمول مغفرة الله لكل انواع الذنوب مهما كانت كبيرة .

هل يغفر الله الشرك والذنوب الكبيرة ومتى يكون العفو الالهي العام؟!التأكيد الاول : هو التعبير بكلمة (إن) فان كلمة (إن) في قوله تعالى (إن الله يغفر الذنوب) للتأكيد، أي لتأكد مغفرة الله  ورحمته لعباده المذنبين ،وكلمة (الذنوب) التي جمعت بالالف واللام التي تفيد العموم تشمل كل انواع الذنوب من دون أي استثناء ، وهذا تأكيد آخر على عموم وشمول المغفرة لكل الوان الذنوب ، والتأكيد الثالث هو ورود كلمة (جميعاً)كتأكيد اخر للتأكيد السابق،والتأكيد الرابع بعد كل ذلك بجملة انه هو الغفور الرحيم  وهما صفتان من اوصاف الله الباعثة على الامل بحيث لا يبقى عند الانسان  بعد ذلك ادنى شعور باليأس او فقدان الامل برحمة الله سبحانه.

وبعد كل هذه التأكيدات المتتالية في هذه الجملة القصيرة ،لا يستطيع احد ان يقول : إن الله لن يرحمني لأن ذنوبي كبيرة او ان الله لن يغفر لي لأني مثقل بالذنوب ،فانك مهما كنت مثقلا بالذنوب الكبيرة والعظيمة فان الله اعظم منها فهو يغفر الذنب العظيم حتى ولو كان مثل ذنب ذلك الرجل الذي كان ينبش القبور في زمن النبي ويرتكب ابشع الاعمال والذي وردت قصته في جملة اسباب نزول هذه الاية .

فقد روي أن معاذ بن جبل وهو أحد اصحاب النبي (ص) دخل على رسول الله ذات مرة باكياً فسلم على النبي فرد  السلام عليه وقال له : ما يبكيك يا معاذ؟ فقال : يا رسول الله إن بالباب شاباً طري الجسد نقي اللون حسن الصورة يبكي شبابه بكاء الثكلى على ولدها وهو يريد الدخول عليك .فقال النبي (ص) : أدخل الشاب يا معاذ، فأدخله عليه فسلم فرد السلام ثم قال : ما يبكيك يا شاب؟..

فقال : كيف لا ابكي وقد ارتكبت ذنوبا ان اخذني الله عز وجل ببعضها أدخلني نار جهنم،ولا اراني الا سيأخذني بها ولا يغفر لي ابداً.
فقال رسول الله : هل اشركت بالله شيئاً؟
قال : اعوذ بالله ان اشرك بربي شيئاً.
فقال النبي : اقتلت النفس التي حرم الله ؟ قال  : لا.
فقال النبي : يغفر الله لك ذنوبك ،وإن كانت مثل الجبال الرواسي. فقال الشاب: فانها اعظم من الجبال الرواسي .
فقال النبي : يغفر الله لك ذنوبك وان كانت مثل الارضين السبع وبحارها ورمالها واشجارها وما فيها من الخلق.
فقال الشاب : فانها اعظم من ذلك يا رسول الله .
فقال النبي : يغفر الله ذنوبك وان كانت مثل السموات ونجومها ومثل العرش والكرسي .
قال : فانها اعظم من ذلك .
فنظر النبي (ص) اليه كهيئة الغضبان ،ثم قال له : ويحك يا شاب ذنوبك أعظم ام ربك ؟ ؟
فخر الشاب لوجهه وهو يقول : سبحان ربي ما شيء اعظم من ربي، ربي اعظم يا نبي الله من كل عظيم .؟
فقال النبي : فهل يغفر الذنب العظيم الا الرب العظيم ؟؟
قال الشاب : لا والله يا رسول الله ثم سكت الشاب فقال له النبي (ص): ويحك يا شاب الا تخبرني بذنب واحد من ذنوبك ؟؟
قال : بلى أخبرك ،اني كنت انبش القبور سبع سنين ،اخرج الاموات وأنزع الاكفان ،فماتت جارية من بعض بنات الأنصار فلما حملت الى قبرها ودفنت وانصرف عنها اهلها وجن عليهم الليل ، اتيت قبرها فنبشته ثم استخرجتها ونزعت ما كان عليها من اكفانها وتركتها متجردة على شفير قبرها ومضيت منصرفاً فأتاني الشيطان فأقبل يزينها لي ....ولم املك نفسي حتى جامعتها وتركتها ،وبعد ان تاب هذا الشاب وأدَّ واجبات كثيرة لمحو ماضيه ،قبل النبي توبته وقال له : يا بهلول أبشرك فأنك عتيق الله من النار .

والخلاصة : ان كل الذنوب قابلة للعفو والمغفرة حتى الشرك بالله والذنوب الكبيرة الاخرى.
وهنا قد نتساءل : اذا كانت الاية تشمل كل الذنوب حتى الشرك فلماذا تقول الاية 48 من سورة النساء ان الشرك من الذنوب التي لا تغتفر؟؟ فان الاية تقول   (إن الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
الا يدل ذلك على التنافي بين الآيتين ؟؟.

هل يغفر الله الشرك والذنوب الكبيرة ومتى يكون العفو الالهي العام؟!والجواب : ان الاية 48 من سورة النساء التي تستثني المشركين من المغفرة فانها تقصد المشركين الذين ماتوا على شركهم فهؤلاء لا يغفر الله لهم ولا تشملهم الرحمة الالهية ولا تقصد الاية اولئك المشركين الذين استفاقوا من غفلتهم قبل الموت وتابوا واتبعوا طريق الله والايمان لان اكثر المسلمين في صدر الاسلام كانوا مشركين ثم امنوا واتبعوا خط الله وتركوا عبادة الاوثان والشرك بالله وآمنوا بوحدانية الله بعد أن دخلوا الاسلام فان هؤلاء بالتأكيد سيغفر الله ذنوبهم حتى الشرك الذي كانوا عليه وهؤلاء تشملهم آية (إن الله يغفر الذنوب جميعاً ).

اذاً فالآية التي تقول (ان الله لا يغفر ان يشرك به ويغفر ما دون ذلك ) يقصد بها ان الله لا يغفر للمشرك اذا مات على شركه اما اذا تاب وآمن وعمل صالحا واتبع خط الله فان الله يغفر ذنبه الذي كان عليه، ولهذا ورد في سبب نزول الاية انها نزلت في اهل مكة حيث قالوا : يزعم محمد ان من عبد الاوثان وقتل النفس لم يغفر له ، وقد عبدنا وقتلنا فكيف نسلم؟ فنزلت ( قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ان الله يغفر الذنوب جميعاً)لتؤكد لهؤلاء ان ذنوبهم هذه قابلة للمغفرة والعفو من الله .

وهكذا نخرج من هذه الاية بوعد الهي بغفران جميع الذنوب الكبيرة والصغيرة ،اذا تاب الانسان وعمل صالحاً ،ولكن لا بد من التأكيد على ان اولئك الاشخاص الذين يحملون على اكتافهم ذنوباً ثقيلة وعظيمة فان عليهم ان يؤدوا واجبات كثيرة حتى يستطيعوا ان يمحوا آثار ماضيهم وسوابقهم وينالوا رحمة الله .

النص من إعداد: الشيخ علي دعموش